Posted by : مجالي البوق السبت، 24 أكتوبر 2015










( نفائس العلوم المُستفادة من حديث ستصالحون الروم ) 







( الملحمة الكبرى )


      قال- عليه الصلاة والسلام-: " فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِوهذه الملحمة المقصود بها الملحمة
الكبرى، وقد تقدم في حديث عوف بن مالك قوله- عليه الصلاة والسلام-:

" ثم هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا" [1]،
والنبي- صلى الله عليه وسلم- يخبر بأن الروم سيغدرون، وهم لن يظهروا ذلك للمسلمين، وسيقومون بحشد
الجيوش التي ستأتي تحت ثمانين راية، وكل راية قوامها اثنا عشر ألف مقاتل، فيكون العدد الإجمالي لهم تسعمائة
وستين ألف مقاتل( أي: مليونًا إلا أربعين ألفًا)!
وهذا عدد ضخم كبير، ولم يسبق في تاريخ الحروب الصليبية- القديمة والحديثة- أن يصل عدد الروم المقاتلين إلى
هذا العدد، وكون العدد كبيرًا بهذه الصورة يمكن أن يدل على أمور عدة، منها:
           
  • أن الروم تدرك قوة المسلمين، وأن عددًا أقل من هذا قد لا يتوصّلون به إلى تحقيق النصر وهزيمة المسلمين. 

  • أنهم يعرفون شدة بأس المسلمين وشجاعتهم، وقد تكون الحرب القريبة التي اشتركوا فيها مع المسلمين في قتال العدو خير دليل وشاهد لإدراكهم هذا الأمر، علاوة على ما جربوه في القتال معهم في حروبهم القديمة. 

  • أن هذا مما قد يؤكد أن الصلح الذي وقع بين المسلمين والروم لم يكن ناشئًا عن ضعف عند المسلمين، بل إن الظاهر أن المسلمين قد أصبحت لهم قوة، وأصبح يُخشى بأسهم؛ ولذلك وافق الروم على عقد الصلح والهدنة معهم، والذي جرّأ الروم على الغدر هو اغترارهم بقوتهم حينما تمكنوا من القضاء على عصابة المسلمين الذين كان منهم الرجل الذي أنكر على الجندي الصليبي رفعه للصليب وقوله : " غلب الصليب"، وهذا المعنى قد تؤكده الرواية الأخرى للحديث، والتي جاءت بلفظ:  " ستصالحكم الروم"[2].



     إننا نسمع اليوم من يحاول كسب تعاطف المسلمين عن طريق بيانات أو كلمات تصدر عن بعض الجماعات
الجهادية يذكر فيها القائلون عبارات الملحمة الكبرى، وفتح روما، وكأن الوضع الحاصل اليوم من قتال الروم ومن
 يشاركهم من العرب والعجم في هذا الوقت ضد بعض الجماعات المقاتلة على أرض الشام، كأنه يمثل مقدمات
المنازلة الكبرى والملحمة العظمى!

     وهم يلهبون بذلك حماس أتباعهم وجنودهم؛ حتى يتفانوا في قتال هؤلاء الأعداء، ولا أدري هل يتكلم هؤلاء
عن علم بحقيقة هذه الملحمة وما يسبقها من علامات؟! أم أنهم يجهلون هذا كله ويعزفون على وتر العاطفة التي قد
 تكون أكبر معين لهم على ما يريدونه؟!

     هل هذا الوقت- بالفعل- هو وقت الملحمة الكبرى التي سيعقبها فتح مدينة هرقل( روما )؟ وهل يصح أصلاً
الكلام في هذه العلامة من علامات الساعة في هذا الوقت؟ 

إن هذا الأمر من أمور الغيب، وإن الكلام فيه- دون ملاحظة ما يسبقه من علامات وأمارات- هو من باب
الرجم بالغيب، بل قد يكون من الكذب على الله والافتراء عليه، وسأعرض هنا لما يتعلّق بهذه الملحمة من
علامات وأمارات دلت عليها السنة النبوية، نعرف وندرك من خلالها أن مثل هذا الكلام الحاصل ومحاولة تنزيل
هذا الحديث على الواقع اليوم ليس إلا مجرد خطاب عاطفي لا يستند إلى كتاب أو سنة ، بل يقوم على دغدغة
مشاعر المسلمين، وخاصة الجنود المقاتلين ، وإلهاب حماسهم ؛ حتى يقاتلوا وهم يحملون هذه العقيدة المبنية -
للأسف - على الجهل، والرجم بالغيب، والكذب على الله، والتقول عليه بلا علم، وهذا الأمر يدل على عظم
الجهل الذي وقع فيه هؤلاء والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به.

.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.





( أمارات الملحمة الكبرى وعلاماتها )

     هناك علامات وأمارات أخبر بها النبي- صلى الله عليه وسلم- تسبق هذا الحدث العظيم، تُضاف إلى ما جاء من
علامات ذكرها هذا الحديث من وجود الصلح الآمن مع الروم، وكذلك التعاون والتحالف معهم في القتال ضد
عدوٍ آخر.

ولكن ربما ينازع البعض في دلالة هذه العلامات الموجودة في الحديث، ولا يوافقنا في اجتهادنا وما ذكرناه من
 ضوابط يصح بها تنزيل هذه الأخبار على الواقع- وأعني بهذا ما يتعلق بعلامة الصلح مع الروم، والمشاركة معهم
في القتال ومن ثم حادثة رفع الصليب-؛ فقد يدّعي البعض وقوع هذه العلامات، وأننا بصدد انتظار غدر الروم،
 ومجيئهم إلى بلاد المسلمين للملحمة الكبرى، بل هناك من يرى أن الغدر حاصل الآن، وأننا بصدد القتال معهم في
الملحمة الكبرى!!!
فلأجل هذا سأورد علامات وأمارات دلت عليها السنة ، وهي واضحة- بحمد الله- ؛ بحيث لا يشتبه أمرها على
الناظر فيها من جهة وقوعها، وتنزيلها على الواقع، وإذا ظهر للقارئ- بجلاء- عدم وقوعها وحصولها- وهي مما
يتعلّق بالملحمة الكبرى- أدرك يقينًا خطأ من استعجل وقوعها في هذا الوقت- بدون حصول هذه العلامات
والأمارات-.


 .*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.





( العلامة الأولى: خراب يثرب )

     إن من العلامات التي أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أنها تقع قبل الملحمة الكبرى علامة تتعلق بمدينة
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهي خرابها، فيثرب هنا هو اسم قديم من أسماء المدينة.
ففي الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه-  أنه قال: 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- :
 " عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ "، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِى حَدَّثَ - أَوْ مَنْكِبِهِ - ثُمَّ قَالَ:  " إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ
هَا هُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ"- يَعْنِى مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-"[3].

فهذا الحديث اشتمل على ذكر علامات وأحداث متسلسلة الوقوع؛ إذا وقعت الأولى كانت علامة على وقوع
الثانية، وإذا وقعت الثانية كانت علامة على وقوع الثالثة، وهكذا.
والذي يهمنا في هذا الحديث علامة خراب يثرب، وأنها إذا وقعت تكون بعدها علامة أخرى، وهي خروج
الملحمة- التي نحن بصدد الحديث عنها-.


وخراب يثرب- أي المدينة النبوية- يحصل بخروج الناس منها، وقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان-
رضي الله عنه- قال:
" أخبَرني رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بما هو كائنٌ إلى أن تقومَ الساعةُ ، فما منه شيءٌ
إلا قد سألتُه ، إلا أني لم أسألْه : ما يُخرِجُ أهلَ المدينةِ من المدينةِ ؟ "[4].

فهذه أمارة- واضحة جليّة- لا يلتبس أمر تنزيلها على الواقع على أحد، فمتى ما خرج الناس من المدينة النبوية،
وأدى هذا الخروج إلى أن تخرب، فإن هذا يكون أمارة وعلامة على قرب وقوع الملحمة الكبرى، وليس في
الحديث ما يبين المدة التي بين هذه العلامة وبين خروج الملحمة، وهذا لم يحدث للمدينة النبوية- حتى الآن-.



تصوير حالة خراب المدينة من حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم-:

     قد ورد في بعض الأحاديث تصوير للحالة التي تكون عليها المدينة عندما تخرب- بخروج أهلها منها-، وذلك
 فيما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:      

          " لَتُتْرَكَنَّ الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ، حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوْ الذِّئْبُ فَيُغَذِّي عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى
الْمِنْبَرِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ؟ قَالَ: لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ"[5].

وقوله " يُغَذِّي " يعني: يبول، وهذا يدلك على أنه ليس هناك من أحد في المسجد حتى يمنع دخول هذه
الحيوانات إليه، ويمنعها من البول فيه.

فهل وقعت هذه العلامة من علامات الملحمة؟



إن ما ذكره بعض شراح الحديث[6] من أن هذه العلامة قد وقعت غير مسلّم به ؛ لأنه لم يُقِم دليلاً على ذلك، وقد
عارضه غيره من أهل العلم، ومثل هذا لو وقع لكان واضحًا ظاهرًا، ولدوّنه المؤرخون في كتبهم، واتفق النقل في
هذا ولم يختلف.

ولذلك فإننا نقول: إن هذه العلامة في طريقها إلى الوقوع، وخاصة أنها ذُكِرت في الحديث بعد عمران بيت المقدس،
وعمرانه قد ذكر بعض شُرّاح الحديث أنه يكون باستيلاء الكفار عليه في آخر الزمان[7]، وهذا حاصل الآن
باستيلاء اليهود عليه واحتلالهم له.



وهناك من يرى أن هذا العمران لبيت المقدس يكون بنزول الخلافة فيه، وهذا أيضًا ليس ببعيد؛ لأنه قد ورد في
الحديث ما يدل على أن الساعة تكون قريبة جدًّا، وأن هناك أمورًا عظامًا قد دنت، وحديث نزول الخلافة رواه
أبو داود عن عبد الله بن حوالة- رضي الله عنه- أنه قال:
بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا، وَعَرَفَ الْجُهْدَ فِى وُجُوهِنَا، فَقَامَ
فِينَا فَقَالَ : " اللَّهُمَّ لاَ تَكِلْهُمْ إِلَىَّ؛ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلاَ تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا ،وَلاَ تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ؛
فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِى - أَوْ قَالَ : عَلَى هَامَتِى - ثُمَّ قَالَ :
" يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلاَفَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلاَزِلُ وَالْبَلاَبِلُ وَالأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِى هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ"[8]. 
ولا شك أن من الأمور العظام وقوع الملحمة، وخروج الدجال، وليس بعدهما إلا نزول عيسى بن مريم- عليه
السلام-، وينفرط عقد الآيات الكبرى للساعة، وعلى كلا الرأيين فإن خراب يثرب لم يقع بعد، والله أعلم.




الخراب الذي يحقق العلامة سيكون مؤقّتًا لا مستمرًّا :

إن هذا الخراب- والله أعلم- وخروج الناس من المدينة وتركهم لها لن يكون مستمرًّا إلى قيام الساعة، وإنما هو لفترة
 معينة، ثم يرجع الناس إليها- بخلاف الخراب الذي يكون في آخر الزمان والذي بعده تقوم الساعة-، ويدل على
ذلك أمران:

الأول:
 ما ورد في حديث الملحمة- وسيأتي ذكره إن شاء الله- أن هناك جيشًا سيخرج من المدينة وينطلق إلى الشام
لمواجهة الروم، وأن هذا الجيش من خيار أهل الأرض، وهذا يبعد معه أن تكون المدينة في هذه الحالة خربة.


الثاني:
 ما ورد في بعض أحاديث الدجال من أنه إذا قدم إليها يريد دخولها تمنعه الملائكة، وترجف المدينة ثلاث
رجفات، فيخرج إليه كل منافق فيها، ومن ذلك:

  • ما رواه البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:

" ليس من بلدٍ إلا سيطؤُه الدَّجَّالُ، إلا مكةَ والمدينةَ، ليس له من نقابِها نَقبٌ إلا عليه الملائكةُ صافِّين يحرسونَها، ثم ترجفُ المدينةُ بأهلِها ثلاثَ رجفاتٍ، فيُخرِجُ اللهُ كلَّ كافرٍ ومنافقٍ"[9]، وهذا ظاهرالدلالة في وجود أناس بالمدينة.
  • ما رواه البخاري أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:

 " يأتي الدجالُ - وهو مُحَرَّمٌ عليه أن يَدخُلَ نِقابَ المدينةِ-، فيَنزِلُ بعض السباخ التي تلي المدينة، فيَخرُجُ إليه يومئذٍ رجلٌ، وهو خيرُ الناسِ، أو من خيارِ الناسِ ، فيقولُ : أشهَدُ أنك الدجالُالذي حدَّثَنا رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حديثَه ، فيقولُ الدجالُ : أرأيتُم إن قتَلتُ هذا ثم أحيَيتُه ، هل تَشُّكونَ في الأمرِ ؟ فيقولونَ : لا ، فيَقتُلُه ، ثم يُحيِيه ، فيقولُ : واللهِ ما كنتُ فيك أشدَّ بصيرةٍ مني اليومَ ، فيريدُ الدجالُ أن يقتُلَه فلا يُسَلَّطُ عليه "[10] وخروج هذا الرجل منها لمواجهة الدجال دليل على وجود أناس بها.



      وقد جمع الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى- بنحو هذا الكلام الذي قدّمناه حيث قال: " وليس المراد أن المدينة
تخرب بالكلية قبل خروج الدجال، وإنما ذلك في آخر الزمان كما سيأتي بيانه في الأحاديث الصحيحة، بل تكون
عمارة بيت المقدس سببًا في خراب المدينة النبوية؛ لأن الناس يرحلون منها إلى الشام لأجل الريف والرخص ، فإنه
قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الدجال لا يقدر على دخولها؛ يمنع من ذلك بما على أبوابها من الملائكة القائمين
بأيديهم السيوف المصلتة "اهـ[11].

فهذه العلامة سابقة لخروج الملحمة ولخروج الدجال، ومعنى الخراب واضح لا يخفى، وابن كثير في هذا النص
يذكر أن الناس يرحلون منها.



     وقد ينازع البعض في الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها، أعني حديث حذيفة- رضي الله عنه- وقوله:
" إلا أني لم أسألْه : ما يُخرِجُ أهلَ المدينةِ من المدينةِ ؟" ، وحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- " لتتركنّ المدينة على
أحسن ما كانت" وأن هذا الخروج والترك إنما يكون بالخراب الأخير الذي يكون بعد الدجال، فهذا احتمال وارد،
 وإنما كان غرضنا من إيراد هذه الأحاديث تفسير الخراب في قوله- عليه الصلاة والسلام-" خراب يثرب"، وهو
حاصل بما هو متقرر في اللغة من معنى الخراب المتضمِّن لخروج أهلها منها أو رحيلهم عنها- كما ذكره ابن كثير-،
فإن صح الاستدلال بالحديثين فبها ونعمت، وإلا اكتفينا بما دلّت عليه اللغة من معنى الخراب، وما ذكره أهل العلم
في ذلك.


.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.






( العلامة الثانية : جيش المدينة )

      إن من العلامات المتعلِّقة بالملحمة الكبرى ما ذكره النبي- صلى الله عليه وسلم- من أن هناك جيشًا من خيار
 أهل الأرض يخرج من المدينة النبوية لمواجهة الروم بأرض الشام، وذلك فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:


 " لا تقومُ الساعةُ حتَّى ينزلَ الرومُ بالأعماقِ ، أوْ بدابقٍ . فيخرجُ إليهمْ جيشٌ مِنَ المدينةِ  مِنْ خيارِ أهلِ الأرضِ
 يومئذٍ ، فإذا تصافُّوا قالتِ الرومُ : خلُّوا بينَنا وبينَ الذينَ سُبُوْا مِنَّا نقاتلُهُمْ ، فيقولُ المسلمونَ : لا  واللهِ !
 لا نُخلِّي بينَكمْ وبينَ إخوانِنا ، فيقاتلونَهُمْ ، فينهزمُ ثلثٌ لا يتوبُ اللهُ عليهمْ أبدًا ، ويقتلُ ثلثُهمْ  أفضلُ الشهداءِ
 عندَ اللهِ ، ويفتتحُ الثلثُ  لا يُفتنونَ أبدًا ، فيفتتحونَ قُسطنطينيةَ ، فبينَما همْ يقتسمونَ الغنائمَ  قدْ علَّقوا سيوفَهُمْ
 بالزيتونِ  إذْ صاحَ فيهم الشيطانُ : إنَّ المسيحَ قدْ خلَفَكمْ في أهليكُمْ ؛ فيخرجونَ - وذلكَ باطلٌ -، فإذا جاءُوا
الشامَ خرجَ . فبينَما همْ يعدونَ للقتالِ ، يسوونَ الصفوفَ  إذْ أُقيمتِ الصلاةُ ، فينزلُ عِيسى ابنُ مريمَ- صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ- فأمَّهُمْ ، فإذا رآهُ عدوُّ اللهِ ذابَ كما يذوبُ الملحُ في الماءِ، فلوْ تركَهُ لانذابَ حتى يهلكَ ، ولكنْ يقتلُهُ
 اللهُ بيدِهِ ، فيريهِمْ دمَهُ في حربتِهِ  "[12].

فهذا الحديث فيه كما ترى إخبار منه- عليه الصلاة والسلام- عن هذا الجيش المبارك الذي وصف رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- جنوده بأنهم من خيار أهل الأرض، وأنه يخرج من المدينة، وظاهر الحديث أن هذا الجيش
يشكل الغالبية العظمى من جيش المسلمين الذي سيواجه الروم في الملحمة إن لم نقل بأنه هو الجيش كله.

وخروج هذا الجيش من المدينة، وانطلاقه إلى أرض الشام بدون وجود معوِّقات الحدود السياسية الموجودة
اليوم- والتي تفصل بلاد المسلمين بعضها عن بعض- حتى يصل إلى مقر القيادة العسكرية في دمشق هو من
الإشارات التي تدل على أن هذه الحدود قد زالت وانتهت، وأن أراضي المسلمين قد توحدت، وأن الخلافة قد
 قامت وأصبح للمسلمين إمام واحد يحكمهم.



تنزيل هذا الحديث على ما يدور اليوم بأرض الشام خطأ:

      تأمل معي كيف أن الجيش يخرج من المدينة، ولا يخرج من بغداد أو من الموصل مثلاً، أو من أي عاصمة من
عواصم الدول العربية؛ لتعلم أنه من الغلط أن يحاول أحد تنزيل هذا الحديث على ما يجري اليوم من القتال في
أرض الشام ضد التحالف الذي تقوده أمريكا- لمجرّد أن المواجهة فقط على أرض الشام أو لأن بعض الجماعات
الجهادية المُستهدفة بالقتال من هذا التحالف تسيطر على بعض أجزاء الشام التي ذكرها الحديث- مثل دابق-،
فمثل هذا الكلام هو غاية في السقوط والجهل، والبعد عن النظر الموضوعي الذي يقوم على أساس جمع الروايات
والنصوص في الموضوع الواحد، والجمع بينها، أما أن نأخذ بأجزاء من الموضوع أو ببعض النصوص ونترك بقية
الأجزاء والنصوص، فهذا نظرٌ أعور لا يصل بصاحبه إلى الحق، بل يوقعه في الضلال.

 ثم لاحظ ما يدل عليه الحديث من أن هناك خطابًا وحديثًا يدور بين المسلمين والروم قبل المنازلة وبدء القتال: هل
هذا موجود في معارك اليوم؟!
كذلك فإن الروم في هذا الحديث  يطلبون من المسلمين أن يُخلُّوا بينهم وبين بعض المسلمين الذين كانوا في الأصل
نصارى وقعوا في الأسر والسبي عند المسلمين، فهداهم الله واعتنقوا الإسلام، وهؤلاء الروم يريدون أن يبدأوا
القتال معهم، ويريدون من المسلمين أن يفسحوا الطريق لهم ليقاتلوهم، وهذا فيه علامة وأمارة واضحة على أن
المعارك التي ستدور بين المسلمين والروم سيقع بسببها أسر لنصارى روم، وهذا بالطبع سيكون قبل الصلح الآمن-
والله أعلم-؛ لأن هذه المعركة العظمى تأتي بسبب الغدر بعد هذا الصلح، فنتساءل: هل وقع بيننا وبين الغرب -
 أمريكا وأوروبا ( الروم )- معارك كان من نتائجها وقوع أسرى روم نصارى عندنا ثم دخلوا في الإسلام وأصبحوا
إخوانًا لنا يقاتلون معنا ضدهم؟!
إن مجيء بعض العجم من المسلمين الأوروبيين والأمريكان وانضمامهم إلى بعض الجماعات الجهادية التي تقاتل
التحالف الذي تقوده أمريكا اليوم لا يعني انطباق الحديث عليهم؛ فهم لم يكونوا أسرى حرب أسلموا، ولكن
شأنهم أنهم رعايا في بلدانهم كانوا كفارًا وأسلموا، ثم ذهبوا إلى ساحات الجهاد في أرض الشام، وانضموا إلى
 الجماعات الجهادية المختلفة، وهذا لا ينطبق عليه هذا الخبر النبوي الصادق-؛ إذ لا شك أن هناك بونًا شاسعًا
بين الحديث وبين الواقع الذي نعيشه، والذي يمتنع معه اعتقاد أو تصور أننا نعيش وقوع هذه الأحداث التي
أخبر بها النبي- صلى الله عليه وسلم-.

ثم لاحظ أيضًا ما عليه ظاهر هذا الحديث من أن الحرب ستعود كما كانت عليه في القديم، وأن هناك مواحهة على
الأرض، وأن هناك خطابات وحوارات تدور بين المتقاتلين قبل بدء القتال، وهذا تؤكِّده علامة أخرى وردت في
بعض الأحاديث التي تصف أيام القتال في هذه الملحمة الكبرى، وتأمل معي أول الحديث، وأن الروم
لا يتجاوزون منطقة الأعماق أو دابق؛ فمكان وجودهم هو في الشام لا غير، ونتساءل هنا: لماذا لم يكتسحوا الشام
 وينطلقوا حتى يصلوا إلى مكة والمدينة؟! وأين سلاحهم الجوي وطائراتهم التي بلغوا بها في هذا العصر كل أرض
من أراضي المسلمين؟!

إن الإجابة على هذه التساؤلات قد توحي إليك بأن هذا السلاح الجوي وهذه الطائرات ليست موجودة، وأن
بعض مظاهر هذه الحضارة والمدنية قد اختفى وأصبح من قبيل الآثار التي يراها الناس.
وهذا أيضًا مما يدلك على أننا لا نعيش في هذا العصر وقت حصول مثل هذه الأحداث التي أخبر عنها النبي-
صلى الله عليه وسلم-، ويكفي أن ترى طائرات التحالف الذي تقوده أمريكا تجول فوق أرض الشام والعراق
وغيرهما لتدرك- تمامًا- عدم صحة تنزيل هذا الحديث على الواقع، وعدم صحة اعتقاد أننا نخوض الملحمة الكبرى
ضد الروم، أو أن فتح روما بات أمرًا قريبًا، وننتقل إلى العلامة الأخرى التي وردت في أحاديث الملحمة ، والتي
 تؤكد ما قلناه.



.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.





( العلامة الثالثة : القتال في الملحمة يتوقف عند قدوم الليل ) 

   روى الإمام مسلم في صحيحه عن يُسير بن جابر قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى
 إِلاَّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، جَاءَتِ السَّاعَةُ. قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ:

 إِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى لاَ يُقْسَمَ مِيرَاثٌ وَلاَ يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ - فَقَالَ عَدُوٌّ
يَجْمَعُونَ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ.
 قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِى؟ قَالَ: نَعَمْ وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ
غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِىءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ
شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِىءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى
الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لاَ تَرْجِعُ إِلاَّ غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا، فَيَفِىءُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِكُلٌّ
 غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً
- إِمَّا قَالَ لاَ يُرَى مِثْلُهَا وَإِمَّا قَالَ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا - حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو
الأَبِ كَانُوا مِائَةً فَلاَ يَجِدُونَهُ بَقِىَ مِنْهُمْ إِلاَّ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ فَبِأَىِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَىُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ
 إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِى ذَرَارِيِّهِمْ؛ فَيَرْفُضُونَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ
وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إِنِّى لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ
آبَائِهِمْ وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ  يَوْمَئِذٍ "[13].

وهذا الحديث هو من كلام عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- إلا ما صرّح برفعه إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم- في ذكر الفوارس العشرة في آخر الحديث، بيد أن هذا من أمور الغيب التي لا مدخل للاجتهاد فيها؛
ولذلك فإن العلماء يحكمون برفع هذا الحديث، وإن كان موقوفًا على الصحابي، وفي هذا الحديث وصف لأيام
الملحمة، وما يجري فيها.



وقد شرح النووي بعض ما جاء في هذا الحديث من كلمات غريبة، فقال:

- " قوله : ( فجاء رجل ليس له هجيرى إلا يا عبد الله بن مسعود) هو بكسر الهاء والجيم المشددة مقصور الألف أي شأنه ودأبه ذلك.

-  قوله  ( فيشترط المسلمون شرطة للموت ) الشرطة بضم الشين طائفة من الجيش تقدم للقتال .

-  قوله : ( فيفيء هؤلاء وهؤلاء أي: يرجع

- قوله : ( نهد إليهم بقية أهل الإسلام ) هو بفتح النون والهاء أي نهض وتقدم

- قوله : ( فيجعل الله الديرة عليهم بفتح الدال والياء أي الهزيمة ، ورواه بعض رواة مسلمالدائرة ) بالألف
وبعدها همزة ، وهو بمعنى الديرة ، وقال الأزهري : الدائرة هم الدولة تدور على الأعداء ، وقيل : هي الحادثة

- قوله : ( حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتًاجنباتهم )- بجيم ثم نون مفتوحتين ثم باء
موحّدة- أي: نواحيهم ، وحكى القاضي عن بعض رواتهم ( بجثمانهم )- بضم الجيم وإسكان المثلثة- أي: شخوصهم.

- وقوله : ( فما يخلفهم ) هو بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام المشددة ، أي: يجاوزهم . وحكى القاضي عن بعض
رواتهم : ( فما يلحقهم ) أي يلحق آخرهم

- وقوله : ( إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك ) هكذا هو في نسخ بلادنا ( ببأس هو أكبر ) بباء موحدة في بأس
وفي أكبر ، وكذا حكاه القاضي عن محققي رواتهم . وعن بعضهم : ( بناس ) بالنون أكثر بالمثلثة
قالوا : والصواب الأول ، ويؤيده رواية أبي داود : " سمعوا بأمر أكبر من ذلك[14] " .



فتأمل معي- رحمك الله- قوله في الحديث " فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُوكيف أنه  ظاهر الدلالة في أن
القتال يتوقف بسبب الظلام ودخول الليل، وهنا نتساءل: أين القنابل المضيئة؟ وأين الكشافات الليلية؟ بل أين
الصواريخ التي تنطلق لتضرب أهدافها ليلاً؟ وأين الطائرات التي تُسقِط حمولتها من القنابل ليلاً أو نهارًا؟ وهل
نعرف في طبيعة حروبنا بهذا العصر أنها تتوقف بسبب الظلام ودخول الليل؟! وهل يصح- مع هذا -أن يقوم
مسلم بتنزيل هذا الحديث على أي حرب تجري في واقعنا المعاصر وهو قد اطلع على هذه الأحاديث والآثار
الصحيحة؟!

إنك لتعجب أن يتكلم بعض المعاصرين في هذا الحديث ، فيجعل من قوله: " حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا
يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا" إشارة إلى أن هذه الحرب سوف تُستَعمل فيها أسلحة الدمار الشامل- من أسلحة كيماوية أو
جرثومية أو غيرها- ، وهذا من العجائب؛ فكيف يستعمل العدو سلاحًا مثل هذا وهو على مقربة من خصمه؟
ألا يؤدي استعمال مثل هذا السلاح في هذه المسافة القصيرة والمساحة الصغيرة إلى هلاك الجميع؟!
ثم لو سلمنا- جدلاً- بأن الحديث فيه إشارة إلى هذه النوعية من الأسلحة، فماذا نصنع بقوله: " حتى يحجز بينهم
الليل"؟ وهل سيتم استعمال هذا السلاح في النهار مثلاً؟ وهل سوف يدع مثل هذا السلاح إذا استُعمِل فرصة
لتكرار أيام المنازلة والمواجهة بين الطرفين؟!

إن من يريد أن يجتهد في تنزيل نصوص الوحي على الواقع- ومنها هذه الأحاديث -، فعليه أن يراعي كل ما ورد
فيها من الأخبار والأمارات والعلامات والأماكن، وأما أن يأخذ ببعض ما ورد في النص ويهمل البعض الآخر،
فكيف يكون هذا الاجتهاد صحيحًا؟

وإن من يعمد إلى مثل هذا النوع من الاجتهاد- الخاطئ- ؛ فإنه  قد يتعسّف في شرحه  حتى يجيب عن مثل هذه
العبارات الواردة في الحديث ، ويخرجها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى آخر فاسد، بتأويل غير سائغ، قد لا تدل
 عليه اللغة، ولا شك أن هذا من الاعتداء والجناية على كلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.



.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.





( الخاتمة )

       مما قدمناه يتبين للقارئ الكريم الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الكتاب وغيرهم ممن حاولوا تنزيل هذا الحديث  أو
بعض ما جاء فيه على الواقع ، وبنوا تصوراتهم على هذا الأساس،  وكذلك يتبيّن خطأ بعض الجماعات المقاتلة  التي 
نشرت هذه الأحاديث بين صفوف أتباعها وجنودها  على أساس أنهم يعيشون  اليوم على أرض الشام إرهاصات
ومقدمات الملحمة الكبرى، بل زعموا أنهم يخوضونها الآن ، وأن ما يجري ليس إلا الملحمة الكبرى التي أخبر بها
الرسول- صلى الله عليه وسلم-!
        إن محاولة هؤلاء إقحام  هذا الحديث في الواقع، وتفسير هذه الأحداث الجارية على أساسه هو في الحقيقة ليس
 إلا ضربًا من الضروب العاطفية التي قد يكون الغرض منها إيقاد الحماس وإلهاب المشاعر والتحفيز على القتال،
بيد أن هذه المحاولة  لا تستند إلى فهم صحيح ونظر موضوعي لما ورد في  السنة من نصوص في هذا الشأن .
وهذا - علاوة على أنه خطأ في الفهم- قد يسبب للأتباع صدمة وانتكاسة فيما لو حدث ما لا يرجونه ويأملونه؛
فالحث والحض على الجهاد والقتال ينبغي أن يكون على وفق ما جاءت به النصوص، وما بينه العلماء، وإلا فإن
العاطفة- وحدها- لا تكفي ،  والاعتماد عليها- وحدها- قد تكون عواقبه وخيمة.  


        وقد تبيّن من خلال هذه الدراسة أن مجال تنزيل هذا الحديث إنما يكون إذا كانت الأمة واحدة، ولها قائدٌ واحد
وأصبحت مهيبة الجانب بحيث يسعى أعداؤها للصلح معها،  وأما والأمة على هذه الحال تُملى عليها الشروط
وليس لأهلها حولٌ ولا قوة - لا في حرب ولا في صلح- ، والروم - بقيادة أمريكا وأوربا- يعيثون في أراضيها
 الفساد وينصرون اليهود عليها، فإن هذا لا يمكن أن يكون معه صلحٌ آمن يشمل  عموم الأمة أو أكثرها،
فالتحدث عن حرب تحالفية مع الروم ليس هذا وقته طالما لم تتحقق علامة الصلح الآمن.

       وقد وردت بعض الأحاديث الضعيفة التي تؤيد ما قررناه ، ولكنني أعرضت عنها؛ وجعلت هذه الرسالة
مبنية على ما ورد من أحاديث صحيحة، وعلى ما يُفهم منها من دلالات واستنباطات.

       هذا وأسأل الله- سبحانه وتعالى- أن يهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم،
كما أسأله- عز وجل- أن ينفع بهذه الرسالة التي كتبتها، ويجعلها سببًا نافعًا ومباركًا في تبصير الناس عامة
والمجاهدين خاصة بما اشتمل عليه هذا الحديث الشريف، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


       تمّ الفراغ منه في يوم الأحد الرابع والعشرين من جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وستة وثلاثين للهجرة.
       قاله وأملاه: أبو عبد الله مجالي بن محمد بن حامد البوق.
       عنوان البريد الإلكتروني:
       majaaly@yahoo.com            









[1] رواه البخاري، وقد تقدم ذكره.
[2] سنن ابن ماجة، وقد تقدم ذكرها.
[3] سنن أبي داود، ج 4، ص 110، ورواه أحمد في المسند ج 36 ص 432، برقم ( 22121 )، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ج4، ص 467، برقم ( 8297 )  ووافقه الذهبي في تصحيحه موقوفًا على معاذ، وهو في حكم المرفوع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، وحسّنه الحافظ ابن حجر في تخريج المشكاة ، انظر: هداية الرواة  إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة، ج 5 ص 107، وجوّد ابن كثير إسناده في النهاية في الفتن والملاحم، ج1، ص83 ..، واختلف المعاصرون في الحكم عليه ، فحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود ج 3، ص24 حديث رقم: 4294، وكذلك صححه المحدث عبد العزيز الطريفي ضمن سلسلة دروس: أشراط الساعة رواية ودراية في الدرس الخامس، ويوجد مفرّغًا على موقعه (  www.altarefe.com  ) ، بينما ضعّفه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند عند الكلام على هذا الحديث برقم 22121 ج 36، ص432.
[4] موسوعة الحديث الشريف ( الكتب الستة ) : صحيح مسلم، ص 1179، حديث رقم: ( 7265 ).
[5] انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج 15،  ص176- 177، برقم: ( 6773 ).  والحديث رواه مالك أيضًا في الموطأ  ج 4 ص256 ، برقم: ( 1752 )، وقد حسنه ابن عبد البر في التمهيد ج 24 ص122 ، وذكره ابن حجر في الفتح عند شرح الحديث ( 1874 ) ج4، ص 108، وقال: له شاهد.
[6] انظر فتح الباري، شرح الحديث ( 1874 ) ، ج4، ص108  وما نقله ابن حجر عن القرطبي والنووي في هذا الشأن.
[7] عون المعبود ، ص1846، في شرح الحديث رقم: ( 4294 ).
[8] سنن أبي داود ج3، ص 19، وقد صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ج 2، ص 106،حديث رقم: 2535.
[9] موسوعة الحديث الشريف ( الكتب الستة ): صحيح البخاري، ص147، حديث رقم: ( 1881 ).
[10] المصدر السابق، ص549، حديث رقم: ( 7132 ).
[11] النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير، ج1 ص83.
[12] موسوعة الحديث الشريف ( الكتب الستة ): صحيح مسلم، ص1180، حديث رقم: ( 7278 ).
[13] انظر: موسوعة الحديث الشريف ( الكتب الستة ): صحيح مسلم ، ص 1180، حديث رقم: 7281.
[14] انظر: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، شرح الحديث رقم ( 2899 ) ص1680.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -