تأملات في أحاديث الرقية (4) 

الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله
 وصحبه أجمعين، فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها (تأملات في أحاديث الرقية)، أورد فيها بعض الأحاديث، وما يُستفاد منها من فقه وعلم.
لايزال الحديث موصولاً في الكلام على حديث " هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولايتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون " والذي ابتدأنا الحديث عنه في المقال الثاني من هذه السلسلة وقدمنا فيما سبق القول الذي رجحناه في بيان المراد من هذا الحديث، وذكرنا عدة أدلة تؤيّد هذا القول، ونتابع في هذا المقال ذكر بقية الأدلة الدالة على تقرير هذا المعنى وترجيحه.

الفقه العملي للصحابة في هذا الحديث :
7 - إن الفقه العملي للصحابة الذين رووا هذا الحديث هو مما يُعين على فهمهذا النص النبوي الكريم.
 والمقصود بالفقه العملي وهو معرفة كيف تعامل الصحابة -رضوان الله عليهم- مع هذا الحديث، كيف طبّقوه، وكيف فهموه، وكيف تعاملوا مع من حولهم بناءً على فهمهم لهذا الحديث. وهذا - في نظري - أمرٌ مهم في فهم النص، وهو يرجع إلى التعرف على البيئة التي قيل فيها، وتطبيق الصحابة له؛ فهم أعلم به من غيرهم فقد عاصروه، وعايشوه، ورأوا كيفية تطبيق الرسول -صلى الله عليه وسلم- له ولذلك رأيت أن أذكر هنا بعض ما عثرتُ عليه في هذا الشأن مما يعين على فهم النص واستيضاح المراد منه، والله وحده هو الموفق للصواب.
هناك عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- رووا هذا الحديث، والروايات معناها واحد وإن كانت قد تختلف في الألفاظ تقديماً وتأخيراً، ومن الذين رووا هذا الحديث من الصحابة مَن كان له فقهٌ عملي في التعامل مع هذا الحديث، ومنهم مَن لم أعثر على عمل له يتعلق بهذا الحديث، وسأذكر ذلك بالتفصيل على النحو التالي:  
أ – عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وقد أخرج حديثه الشيخان البخاري 
ومسلم وغيرهما.
ب - عمران بن حصين -رضي الله عنه- وقد أخرج حديثه مسلم في صحيحه 
( ح 218 ، وكذلك  ابن حبان في صحيحه ( ح 6089 ) . 
ت - عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- وقد أخرجه حديثه الحاكم في 
المستدرك ( 797 / 5 ).
وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ( ص 700 ) . 
ث - جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- وقد أخرج حديثه الهيثمي في مجمع 
الزوائد ( 409 / 10 ) ، 
وقال: رجاله رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثّق. 
ج - أنس بن مالك -رضي الله عنه- وقد أورده الألباني في صحيح الجامع 
( ح 3604 ) . 
ح – أبو هريرة -رضي الله عنه- وقد أخرج حديثه ابن حبان في صحيحة ( ح 726 )، لكن لم يذكر أنهم لا يتطيرون، وكذلك لم يذكر أنهم سبعون ألفاً. 
وقد ضعّفه شعيب الأرناؤوط في تخريجه لأحاديث ابن حبان.
فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدّثوا بهذاالحديث،  وقد مرّ معنا في المقال الثاني ذكر بعض الآثار عن الصحابة -رضي الله 
عنهم- الذين استرقوا واكتووا، والذي يعنينا منهم في هذا المقام: أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث ورد عنه أنه اكتوى من اللقوَة، وكذلك عمران 
بنحصين-رضي الله عنه- أنه كان ينهى عن الكي ثم اكتوى بعد ذلك، وهذه الآثار موجودة في مصنف ابن أبي شيبة ( راجع المقال الثاني )، فهذان 
الصحابيان وقع منهما الاكتواء، ولا يُقال لعلهما لم يطّلعا على الحديث؛ لأنهما ممن رووا هذا الحديث، ولا يُظن فيهما أنهما ليسا حريصين على تحصيل الفضل الوارد في الحديث، ومع ذلك فقد اكتويا، وهذا فقهٌ عملي منهما وأن ما قاما به من الاكتواء لا ينافي ما جاء في الحديث، وأنهما فهِما أن الاكتواء المطلوب تركه في هذا الحديث هو صورة معينة وحالة معينة منه كانت موجودة في الجاهلية، وهما حينما اكتويا لم يقع منهما الكي على الوجه المذموم  الذي كان في الجاهلية. وإنما ذكرت هذين الأثرين مع أنهما متعلقان بالكي وليس بالرقية؛ لأن الحكم واحد فيهما، ولأن المقصود هو بيان أن هذين الصحابيين لم يفهما من الحديث ترك الاكتواء مطلقاً كما يُقرره أصحاب القول الآخر الذين يرون في الحديث دلالة على ترك الاسترقاء والاكتواء مطلقاً لا فرق عندهم بين المذموم والمشروع منهما، وقد بينّا ضعف هذا القول، وقدّمنا الأدلة على ذلك ومنها هذا الدليل المتعلق بالفقه العملي للصحابة الذين رووا الحديث.

أما الصحابي عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- فقد جاء عنه مايدل على إنكاره للرقية مطلقاً وهذا رُبما يُفهم منه أنه يرى أن قوله "لا يسترقون" في الحديث يشمل الرقية كلها سواءً كانت من القرآن أو من غيره من رُقى الجاهلية المحرمة، وفهمه هذا رضي الله عنه بناه على الحديث الذي رواه،  
وقد تقدّم ذكرُ هذا الحديث، ونذكره هنا مع زيادة توضَح موقفه وفهمه للحديث،  روى أبو داوود في سننه حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ". 
قالت زينب زوجة عبدالله بن مسعود-رضي الله عنه-: " قلتُ: لِمَ تقولُ هذا؟ واللَّهِ لقد كانَت عيني تقذفُ وَكُنتُ أختلفُ إلى فلانٍ اليَهوديِّ يرقيني فإذا رقاني 
سَكَنت، فقالَ عبدُ اللَّهِ: إنَّما ذاكَ عمَلُ الشَّيطانِ كانَ ينخسُها بيدِهِ فإذا رقاها كفَّ عنها، إنَّما كانَ يَكْفيكِ أن تَقولي كما كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ: 
أذهِبِ الباسَ ربَّ النَّاسِ، اشفِ أنتَ الشَّافي، لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادرُسَقمًا" وقد صححه الألباني في صحيح أبي داوود ( ح 3883 ). 
  
ومن هذه القصة ترى أن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنكر على زوجته الاسترقاء وأنها كانت تذهب إلى شخص يهودي يرقيها، وهو لم يُنكر عليها لأنها ذهبت إلى يهودي يرقيها، بل أنكر عليها أصل فعلها وهو الاسترقاء، ولم  يستفصل ويسأل هل اليهودي كان يرقيها بشيءٍ مُباح أو بشيء محرم، 
وأمرها بالاقتصار على الدعاء الذي ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 
" أذهِبِ الباسَ ربَّ النَّاسِ، اشفِ أنتَ الشَّافي، لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادرُ سَقمًا".
وهذا يعني أنه فهم الحديث على عمومه وأن الرقى والتمائم والتولة كلها من الشرك، وهذا الفهم لاشك أنه خطأ، وهو يُعارض ما قاله النبي -عليه الصلاة  والسلام- في حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم - وقد تقدّم معنا - : 
"لابأس بالرقى مالم يكن فيه شرك "، وهذا الحديث يدل على جواز الرقية التي  ليست من الشرك، ولذلك لا نستطيع أن نأخذ بقول وفهم ابن مسعود هذا؛ لأنه يعارض قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم لو أجريناه على حديث السبعين ألفاً وهم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فمعنى هذا أنه يرى ترك الاسترقاء مطلقاً؛ لأن الرقى كلها عنده من الشرك، وهذا في الحقيقة يؤكد أن الاسترقاء المطلوب تركه في الحديث هو ما كان من الشرك وهو الذي ينافي التوكل، وهو المعنى الذي رجّحناه غير أننا لا نستطيع أن ننسب هذا الفهم إلى ابن مسعود؛ لأنه لا يُقسّم الرقية إلى قسم جائز وقسم ممنوع بل الكل عنده ممنوع، وكذلك التمائم عنده كلها ممنوعة لا فرق عنده بين التميمة التي تُعلّق من القرآن أو من غيره، فعن إبراهيم النخعي عن عبد الله: أَنَّهُ كَرِهَ تَعْلِيقَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ. ( مصنف ابن أبي شيبة 5/ 35، باب في تعليق التمائم والرقى ).
الكراهة عندهم تعني التحريم، وليست هي بالمعنى الذي اصطلح عليه الفقهاء فيما بعد.

فإن قال قائل: ولماذا لا يكون إنكاره على زينب زوجته لأجل أنها ذهبت إلى يهودي، ورُقى اليهود قد تكون من الرُّقى الشركية المحرمة؟  
فالجواب عن هذا أن نقول: 
أ - إنه لم يذكر في كلامه معها ما يدل على أن إنكاره عليها بسبب ذهابها إلى اليهودي حتى نجعل السبب في المنع من استرقائها هو ترددها على اليهودي.
ب - إن اليهود كانوا يمارسون الرقية ورُبما كانت الرقية بكلام الله الموجود عندهم في التوراة مما ليس فيه شرك فتجوز الرقية به، ويدل على هذا أن أبابكر -رضي الله عنه- دخل على عائشة وهي تشتكي وعندها امرأة ترقيها، وفي رواية عندها يهودية ترقيها فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: ارقيها بكتاب الله وهذا الأثر صحح إسناده النووي في المجموع ( 65 / 9 )، فأبو بكر -رضي الله عنه- لم يُنكر على عائشة ولا على اليهودية وإنما أمر اليهودية أن ترقيها بكتاب الله، وكتاب الله هنا ليس هو القرآن؛ لأن اليهود لا يؤمنون به،  وإنما المقصود كتاب الله الذي عندهم وهو التوراة، وقد ذكر العلماء أنه ليس كل ما في التوراة محرّف، وأن التحريف الذي عندهم قد كشف الله عنه في القرآن ، وعلى هذا فيُمكن قراءة شيء من التوراة باللغة العربية مما ليس فيه شرك فيكون جائزاً كما دل عليه حديث عوف بن مالك: "  لابأس بالرقى مالم يكن فيه شرك "، فليست القضية عند ابن مسعود -رضي الله عنه- إنكار الرقية لأن الراقي يهودي، وإنما لأصل العمل وهو ذهابها لشخص يرقيها، 
فحتى لو ذهبت إلى شخص مسلم يرقيها فالحكم عنده واحد وهو أنه كما  قال إنما كان يكفيك " أذهِبِ الباسَ ربَّ النَّاسِ، اشفِ أنتَ الشَّافي، لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادرُ سَقمًا"، ولكن بالنظر إلى الأدلة الدالة على جواز الرقية بكل ما هو مباح من كلام الله والأدعية والأذكار الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل كلامٍ مُباح ليس فيه شرك فإنه يجوز لزينب زوجة ابن 
مسعود أن تسترقي به، ولا يلزمها الاقتصار فقط على الدعاء الذي أمرها به 
وإن كان هذا الدعاء مما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنه لم يأمرنا بالاقتصار على هذا الدعاء فقط دون غيره كما هو ظاهر صنيع ابن    
مسعود مع زوجته زينب في هذه القصة حيث اقتصر على ذكر هذا الدعاء فقط.
ومذهب ابن مسعود -رضي الله عنه- في مسائل الرقية قد يكون من أشد  المذاهب إن لم يكن أشدّها على الإطلاق بالنظر إلى ما جاء عن بقية الصحابة- رضي الله عنهم-، وله آراء تعكس فهمه للنصوص النبوية، وهو يخالف فيها ما عليه جمهور الصحابة -رضي الله عنهم- فيما ذهبوا إليه في 
مسائل الرقية ولكن كلٌ يُؤخذ من قوله ويُرد عليه إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن وافق مذهبه ما جاء عن الرسول أخذنا به، ومن خالف مذهبه ما جاء عن الرسول تركناه ولم نأخذ به، والتمسنا له العذر فيما وقع فيه من خطأ ومخالفة فهذا ما أدّاه إليه اجتهاده، والفقيه إذا اجتهد في المسألة فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجرٌ واحد وهو أجر الاجتهاد، ويُغتفر له خطؤه ولكن 
متى تبيّن لنا خطأ الفقيه في موجب الدليل وجب علينا العدول عنه إلى 
الصواب الموافق للدليل.
 وليس هذا مقام عرض وسرد آراء ابن مسعود -رضي الله عنه- في مسائل الرقى وربما تأتي مناسبة في المقالات القادمة لعرض وسرد هذه الآراء ومناقشتها، والله الموفق.

أما بقية رواة الحديث من الصحابة وهم ابن عباس وجابر وأبي هريرة-رضي 
الله عنهم- فهؤلاء لم أجد عنهم فيما اطلعت عليه من الآثار ما يُبيّن كيفية تعاملهم مع هذا الحديث وتطبيقهم له، وفيما نقلناه عن أنس بن مالك وعمران بن حصين-رضي الله عنهم- كفاية في تقرير ما أردنا الوصول إليه وتوضيحه وبيانه، والله وحده هو الموفق للصواب، وسيأتي عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- ما يدل على توسعه في أمر الرقى عند الكلام على مسألة الرقية 
وهل  هي توقيفية أم اجتهادية إن شاء الله، فنُرجئ ذكر هذا إلى موضعه؛ حتى 
لا يتكرر الكلام ويطول المقال.



الكلام على رواية الإمام مسلم: 
لقد روى الإمام مسلم-رحمه الله- هذا الحديث في صحيحه بزيادة لفظة " لا يرقون"، حيث قال رحمه الله: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أخبرنا 
حصين بن عبد الرحمن، قال: كنت عند سعيد بن جبير... وذكر القصة إلى أن  
قال في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا  يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" (ح374، باب 
الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب).
وقد أنكر بعض العلماء هذه الزيادة " لا يرقون" وقال بأنها وهمٌ وغلط، وهذا بناءً على ما فهمومه واعتقدوه من أن ترك الاسترقاء مطلوب مطلقًا سواءً  كانت الرقية جائزة أو ممنوعة، وظنوا أن قوله " لا يرقون" هو كذلك بنفس المعنى وأنهم لا يرقون غيرهم لا بالرقية الجائزة ولا بالممنوعة، وأن هذا يُعارض ما ثبت من أنه عليه الصلاة والسلام رقى غيره، ورقاه جبريل-عليه 
السلام-، ولكن على ما رجّحناه من أنّ هذا الحديث إنما هو محمولٌ على ترك 
الرقى المحرّمة، وأما الجائزة فلا تدخل في هذا الحديث، وعلى هذا فإن قوله    "لا يرقون" لا يتعارض مع ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المقصود أنهم لا يرقون بالرقى الجاهلية والشركية المحرّمة، وأما إنكار هذه الزيادة من ناحية الصنعة الحديثية فقد قال ابن حجر-رحمه الله- 
في الفتح (11/  409): "وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة، وسعيد بن منصور حافظ، وقد اعتمده البخاري ومسلم، واعتمد مسلم على روايته هذه، 
وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يُصار إليه". اهفهذا مما يدلك على أن تغليط الراوي ليس في محلّه، وأننا متى ما فهمنا أن معنى قوله " لا يرقون، ولا يسترقون" إنما هو محمولٌ على الرقى المحرّمة  
شرعًا فإنه في هذه الحالة ليست هذه الزيادة غلطًا، ولا تُعارض الأحاديث التي  ثبتت فيها الرقية؛ لأنها كانت رقية جائزة مأذونٌ فيها شرعًا بخلاف المطلوب تركه في قوله: " لا يرقون، ولايسترقون" فهي في الرقى غير المأذون فيها شرعًا، فلا تعارض ولله الحمد بل وهذه اللفظة الزيادة أعني قوله 
         "لا يرقون" مما يؤكد ما ذهبنا إليه ورجحناه في أن المقصود بالحديث ترك الاسترقاء المذموم والممنوع شرعًا. 
ومما يقوي هذا الفهم الذي ذهبنا إليه في هذه اللفظة التي رواها الإمام مسلم- رحمه الله- ما رواه سعيد قال حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد 
الغفار بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال:  
«لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ أَرْقَى وَاسْتَرْقَى» وقد جوّد إسناده ابن مفلح في الآداب الشرعية 
(2/ 349)، وكذلك الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- 
(انظر: مجموعة الحديث على أبواب الفقه 2/ 226).
وسعيد هذا هو ابن منصور يروي عن سفيان بن عُيينة، وأما قوله: "عبد الغفار عن المغيرة" فلعله خطأ، وإنما هو العقار بن المغيرة، أحد أبناء المغيرة، يروي عن أبيه المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه-، وسعيد بن منصور  هو نفسه الذي روى له الإمام مسلم الحديث السابق الذي فيه زيادة:  
" لا يرقون"، وقد تقدّم كلام ابن حجر عن هذه الزيادة، ويشهد لها كذلك هذا الحديث هنا، وهذا الحديث يؤكّد الفهم الذي ذهبنا إليه؛ فإن قوله: " لم يتوكل من أرقى واسترقى" لا يصح إلا إذا كانت الرقية غير شرعية ومحرّمة فإنه عند ذلك لا يكون متوكلًا مَن رقى غيره، أو طلب الرقية من غيره، أما إذا قلنا 
بأن مَن رقى غيره برقية شرعية جائزة أو استرقى بطلب الرقية من غيره برقيةٍ شرعيةٍ جائزة فإن هذا لا يُنافي التوكل، ولا يقدح فيه، وبالتالي فإن هذا 
الحديث " لم يتوكل من أرقى واسترقى" لا ينطبق إلا على صورة الرقية المحرّمة.
وعلى هذا فإن الزيادة التي رواها الإمام مسلم-رحمه الله- " لا يرقون" مع  قوله " ولا يسترقون" تتفق تمامًا مع ما جاء في هذا الحديث: " لم يتوكل من أرقى واسترقى"، فإنهما يتناولان الصورة المحرمة للرقية والله أعلم، 
والحمد لله على ما يسّر وأعان، فما كان من صواب فهو من الله وحده بفضلٍ منه وكرمٍ وتوفيق، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه، وأرجع عنه متى ما تبيّن لي الحق بعون الله.






تأملات في أحاديث الرقية ( 3 ) :

تابع الكلام عن حديث السبعين ألفاً ومن صفاتهم أنهم لايسترقون :
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل  متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها ( تأملات في أحاديث الرقية )، أورد فيها بعض الأحاديث ، ومايُستفاد منها من فقه وعلم .

وهذا هو المقال الثالث ونتابع فيه الكلام عن حديث : " هم الذين لايتطيرون ولايسترقون ولايكتوون وعلى ربهم يتوكلون " ، والذي كنا قد ابتدأنا الكلام عنه في المقال الثاني ، وخلاصة ماذكرناه أن معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ولايسترقون " أي: لا يطلبون الرقى المحرمة، وقد أوردنا بعض الأدلة التي تؤيد هذا المعنى الذي رجحناه، ونتابع في هذا المقال ذكر بقية الأدلة حتى يطمئن القلب إلى تقرير هذا المعنى وتأكيده .

4 - إن مَن تأمّل هذا الحديث الذي يذكر صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب وقدرهم سبعون ألفاً من هذه الأمة، يجد أن خاتمة هذه الصفات والجامعة لها قوله عليه الصلاة والسلام : " وعلى ربهم يتوكلون " على ربهم - أي: لا على غيره - يتوكلون، فهذه الجملة تفيد الحصر وأنهم يتوكلون على الله وحده، وحقيقة التوكل هو: صدق اعتماد القلب على الله في جلب النفع أو دفع الضر، ولايعارضه فعل الأسباب التي تؤدي إلى حصول منفعة أو دفع مضرة .

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الاسترقاء والاكتواء ينافي التوكل؟
والجواب: أنه إن كان الاسترقاء والاكتواء على صورةٍ مأذونٌ فيها شرعاً وليست محرمة فإن هذا لايُنافي التوكل؛ لأن التداوي بفعل الأسباب المباحة لايُنافي التوكل، فلما ختم صفاتهم بهذه الصفة " وعلى ربهم يتوكلون " كان في هذا إشارة إلى أن الاسترقاء والاكتواء الذي يتركونه ولايفعلونه هو الاسترقاء والاكتواء المذموم شرعاً، وحتى نزيد هذا الأمر وضوحاً نقول إن النصوص الواردة في شأن الرقى إذا تأملناها نجد أنها في الغالب تتحدث عن الصورة المعهودة الموجودة والمنتشرة في ذلك الوقت وهي الرقى الجاهلية التي يغلب عليها أنها من الرقى الشركية المحرمة .

خذ على سبيل المثال هذا الحديث المعروف المشهور حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرقى، والتمائم، والتولة شرك" (انظر السلسلة الصحيحة 649 /1) فهذا الحديث لو أخذنا بعمومه - لأن لفظ الرقى لفظ عام - لكانت كل رقية سواءً من القرآن أو من غيره شرك كما يدل عليه منطوق الحديث، وهذا لايقول به أحد من العلماء، فتعيّن أن الرقى المذكورة هنا في الحديث هي الرقى الجاهلية الشركية ولذلك وصفها بأنها شرك، أما الرقى من القرآن والأذكار والأدعية النبوية فهذه جائزة بإجماع العلماء، وكذلك التمائم في هذا الحديث المقصود بها التمائم الشركية التي كانت موجودة في الجاهلية وأما التمائم التي من القرآن، والأذكار، والأدعية النبوية فهذه ليست من الشرك ولا تدخل في الحديث وقد ورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كعبدالله بن عمرو بن العاص كان يعلّق التميمة فيها
ذكر ودعاء للوقاية من الفزع على صدور أبنائه ( حسنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح 25 / 3 )

وكذلك حينما نقرأ أحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من اكتَوَى أو استرقَى ؛ فقد برِئَ من التوكلِ"
رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وقال: حديث حسن صحيح، وقد ( صحح النووي إسناده في المجموع 63 / 9 ) ، ( وانظر السلسة الصحيحة للألباني ح 244 ) ، وهذا الحديث كما ترى لو أخذنا بظاهره لكان كل من استرقى أو اكتوى قد برئ من التوكل، وهذا معناه أنه ليس عنده
توكل على الله، وعلى هذا يكون الاسترقاء والاكتواء محرماً، وهذا إنما يكون صحيحاً إذا كان الاسترقاء والاكتواء على وجهٍ محرم شرعاً، فالحديث هنا -كذلك يتحدث عن الرقية الشركية الموجودة في الجاهلية التي من استرقى بها فقد برئ من التوكل ويتحدث كذلك عن صورة من صور الكي الموجودة في الجاهلية التي من فعلها فقد برئ من التوكل وقد تقدم الكلام على بيان هذه الصورة في المقال السابق فليرجع إليه .

وفي حديث عوف بن مالك الذي رضي الله عنه قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يارسول الله ، كيف ترى في ذلك فقال : اعرضوا علي رقاكم ، لابأس بالرقى مالم يكن فيه شرك ">{ح 2200}
وهذا يؤكّد أن الرقى الممنوعة هي الرقى الشركية ، وأما الرقى التي ليست شركاً فإنها لابأس بها، وهي جائزة .

إذا تبيّن هذا فإن سياق هذا الحديث الذي معنا
في شأن السبعين ألفا ً الذين يدخلون الجنة بغير حساب لايخرج عن هذا الإطار الذي رسمته هذه الأحاديث المتعلقة بالرقية والتي ذكرنا أمثلة لها ، وهذا مما يجعلنا نرجح أن الاسترقاء والاكتواء الممنوع في هذا الحديث هو ماكان على وجهٍ مذموم شرعاً، وأما من استرقى أو اكتوى على الوجه الذي أذن فيه الشرع فإنه لايخرج عن كونه متوكلاً على ربه، ولايفوته هذا الفضل بإذن الله إذا حقق التوكل على ربه -سبحانه وتعالى- في بقية شؤون حياته .

ومما يُعضِّد هذا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ذكر التطيّر مع الاسترقاء والاكتواء، ومعلومٌ أن الطِيَرة من الشرك، وكونه يذكرُها مع الاسترقاء والاكتواء قد يُشعر بوجود علاقةٍ أو شبه بين هذه الأمور الثلاثة التطير والاسترقاء والاكتواء ، وهذا الشبه هو كونُها كلها منهيٌ عنها شرعاً وتنافي التوكل على الله ، وإنما تكون كذلك إذا كانت على وجهٍ منهي عنه كأن تكون الرقى
محرمة والاكتواء مع عقيدة فاسدة، والله أعلم .

5 - أن طلب الرقيةِ من المسلم من جنس طلب الدعاء منه وهو أمر جائز ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل من أفضل أصحابه -رضي الله عنهم -وهو عمر بن الخطاب في شأن أويس بن عامر: " إن استطعت أن يستغفر لك فافعل ". وفي رواية: " فمن لقيه فليستغفر لكم ". (رواه مسلم "2542") ، وهذا الوجه من الاستدلال إنما ذكرناه ردًا على من يمنع طلب الرقية من الغير بناءً على مافهمه من لفظة "لايسترقون" الواردة في الحديث ، معللاً ذلك بأن هذا فيه نوع من التذلل، والانكسار، وتعلّق طالب الرقية بالراقي، وهذا كله موجودٌ في طلب الدعاء من الغير، فهل نقول بكراهة طلب الدعاء من الصالحين لأجل هذه العلة التي ذكروها ؟ نعم، قد قال بعض العلماء بكراهة طلب الدعاء؛ لما يتضمنه من الذل، والانكسار، والتعلق بهذا الداعي الذي يدعو له، ولكن لو قدّرنا أن هذه العلة صحيحة وموجودة فإنه مع ذلك قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفاروق -رضي الله عنه- أنه متى لقي ذلك الرجل البار بأمه أويس القرني فإنه يطلب منه أن يستغفرله، مع أن أويس القرني ليس من الصحابة ، ومع أن عمر -رضي الله عنه- من المبشرين بالجنة ومع ذلك أمره بأن يطلب منه الاستغفار له، ولا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بشيء فيه مفسدة بوجه من الوجوه
أو أمر يُذمُّ شرعاً ، ولو قدّرنا أن هذه العلة صحيحة ولازمة لكل من طلب الدعاء من الغير فإن هذا يكون أمراً غير مؤثر ومغتفر؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وكما جاء طلب الدعاء من قوله وأمره فكذلك جاء طلب الدعاء من فعله عليه الصلاة والسلام وذلك كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-
أنه استأذن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في العمرةِ فقال : أي أُخيَّ أشركْنا في دعائِك ولا تنسَنا
وهذا الحديث صححه جماعة من أهل العلم منهم ابن حجر في ( تخريج مشكاًة المصابيح 414 /2 )،
(والنووي في رياض الصالحين ص 180 ) ، ( والمنذري في الترغيب والترهيب 323 / 4 ) .

وهذا كله تعليمٌ وإرشادٌ لأمته عليه الصلاة والسلام وإلا فإنه ليس في حاجة لأن يدعو له أحد من أمته
كما لا يخفى، والله أعلم .

6- إن العلاج عن طريق الرقية الشرعية، وعن طريق الكيّ هو من التداوي الذي أمر به رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن أسامة بن شُريك: قال: قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: " نعم، يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء إلا داء واحدا " قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: «الهرم».
وقد صححه الألباني-رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي ح2038، باب ما جاء في الدواء والحث عليه.
وقوله: " تداووا" هذا أمر، وأقل أحوال الأمر أن يفيد الاستحباب فالتداوي بالمباحات أمرٌ مستحب، والأمر بالتداوي هنا عام يشمل: التداوي بكل ما هو جائز، والاسترقاء والاكتواء هو من التداوي، ويدخل في عموم هذا الأمر طالما كان الاسترقاء والاكتواء على وجهٍ مأذون فيه شرعًا كما تقدّم، والتداوي لا يُنافي التوكل، ولذلك قلنا إن قوله عليه الصلاة والسلام: " هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون " أن هذا في شأن الاسترقاء والاكتواء غير المأذون فيه شرعًا؛ لأنه ينافي التوكل، وأما ما كان مأذونٌ فيه شرعًا فإنه لا يُنافي التوكل وبالتالي لا يدخل في هذا الحديث، والرقية والكي هما من جملة الأمور التي يداوى بها الناس ولاشك أن التداوي بالقرآن والأدعية والأذكار النبوية أفضل من التداوي بغيرها؛ لأن ذلك من شأنه أن يُعلّق قلب الإنسان بربّه ويزيده إيمانًا ويقينًا بتأثير ونفع كلام ربه وبالدعاء وبالذكر الذي جاء عن نبيه محمد-صلى الله عليه وسلم-.
ومعلومٌ أن المريض قد يحصل له نوع تعلق بالطبيب الذي يعالجه بالدواء الذي يستشفي به، ومع ذلك فإن الرسول-صلى الله عليه وسلم- أمر بالتداوي.
والذي ينبغي على المسلم أنه يستعمل هذه الأدوية والرقى ويُعلّق قلبه بالله سبحانه وتعالى في حصول الأثر والمنفعة المرجوة منها، ولا يجوز أن يعتقد المسلم أن هذا الدواء أو هذه الرقية مؤثرة بذاتها؛ لأن هذا مما ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب وعدم الاعتماد عليها، والله أعلم.

قال ابن القيم-رحمه الله-: " وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل" ( انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 14).
ومن كلامه هذا رحمه الله يتبيّن لنا أن ترك الأسباب يقدح في التوكل، فالعبد يباشرها ويفعلها ويعتمد على الله في حصول أثرها ونفعها، ولذلك فإن العبد إذا نزل به الداء فإنه يُشرع له أن يسلك سبل التداوي لرفع هذا الداء ودفعه، ومن ذلك أنه يسترقي ويكتوي وكل هذا لا ينافي التوكل بل تركه هو الذي قد يقدح في التوكل، والمهم أنه يبتعد عن التداوي بالرقى الشركية المحرمة، والكي في الصورة التي نهى عنها الشرع وهي الكي المصاحب للإعتقاد الفاسد الذي كان عليه العرب في الجاهلية ، وبهذا يسلم من أن يفوّت على نفسه الفضل الوارد في الحديث، والله أعلم.
تأملات في أحاديث الرقية (2)

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها ( تأملات في أحاديث الرقية  أورد فيها بعض الأحاديث ، وما يُستفاد منها من فقه وعلم .

وهذا هو المقال الثاني من هذه السلسلة وهوبعنوان:

"الكلام على حديث لايسترقون ":

قد يقول قائل ذكرتم في المقال السابق الذي تحدثتم فيه عن مراعاة مبدأ التخصص في شأن الرقية ، عدة أحاديث لتقرير هذا المبدأ ، ولكن إذا كان الأمر كما ذكرتم وأن المسلم يشرع له التماس
الراقي المتخصص في الرقية حتى يقوم برقيته والقراءة عليه ، ألا يُشكل على هذا الفهم حديث لا يسترقون الآتي وماهو الجواب عنه
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :

خَرَجَ عَلَيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُلُ، والنبيُّ معهُ الرَّجُلَانِ، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ، ورَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فقِيلَ: هذا مُوسَى وقَوْمُهُ، ثُمَّ قيلَ لِي:   انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وهَكَذَا، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقِيلَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، ومع هَؤُلَاءِ   سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ ولَمْ يُبَيَّنْ لهمْ، فَتَذَاكَرَ أصْحَابُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالوا: أمَّا نَحْنُ   فَوُلِدْنَا في الشِّرْكِ، ولَكِنَّا آمَنَّا باللَّهِ ورَسولِهِ، ولَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أمِنْهُمْ أنَا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ:  أمِنْهُمْ أنَا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بهَا عُكَاشَةُمتفق عليه 

فقوله في الحديث لايسترقون أي أنهم لايطلبون الرقية ، وهذه صفة من صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل مسلم حريص على أن ينال هذا الفضل وأن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فكيف نقول للناس اطلبوا الرقية من الغير ومن المتخصصين فيها ونفوّت عليهم هذا الفضل ؟
أليس من الأفضل أن نرشدهم إلى أن يقرأوا على أنفسهم بأنفسهم ولا يطلبوا ذلك من غيرهم ؟

فنقول جواباً على هذا : نعم قد قال بهذا القول بعض العلماء من السلف والخلف ونحن نحترم قولهم هذا وهم قد بنَوْ هذا القول على مافهموه من قوله لايسترقون وأنه بمعنى لايطلبون الرقية سواءً كانت رقية شرعية مأذون فيها أم رقية غير شرعية وغير مأذون فيها ، ولكن هناك علماء آخرون فهموا قوله لايسترقون بمعنى أنهم لايطلبون الرقية المحرمة غير الشرعية التي لم يأذن فيها الشرع وأما من طلب الرقية الشرعية المأذون فيها فإنه لايدخل في هذا الحديث ولايُحرم من هذا الفضل إذا استوفى بقية الصفات المذكورة في الحديث وهذا القول أصح
وهو الراجح وذلك لما يأتي من الأدلة .

1 - ذكر الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه في باب رقية العين ، حديث عائشة رضي الله عنها قالت أمَرنِي رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلم أو أمر أن يُسترقى من العين

ورواه مسلم بلفظ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ العَيْنِ .

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة بالاسترقاء من العين وأقل أحوال الأمر هُنا أنه يُفيد
الاستحباب ، وعائشة رضي الله عنها لها من المكانة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ماليس لغيرها وقد كانت أحب الناس إليه فهل يُعقل أن يأمرها بشيء يفو‍‍‍‍‍‍ًّت عليها الفضل الوارد في الحديث وأن تكون من جملة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ؟!

لاشكّ أن النبي عليه الصلاة والسلام حريص على أمته وهو أشد حرصاً على أهل بيته وعلى أن ينالوا مثل هذا الفضل ، وهذا مما يدلك ويبين لك أن معنى قوله لايسترقون أي لايطلبون رقيةً غير شرعية وغير مأذون فيها شرعاً ، ولو كان المعنى الثاني صحيحاً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه بأن تطلب الرقية من غيرها ويفوّت عليها
مثل هذا الفضل ، وتأمل معي كيف أنه لم يرشدها
إلى أن ترقي نفسها بنفسِها وأن هذا هو الأفضل ،وهذا كله مما يؤكد لك أن أمره لها بالرقية من العين
لاينافي الأفضل ولا يُخرجها أن تكون من جملة الذين يدخلون الجنة بغير حساب .



2 - وذكر الإمام البخاري كذلك في باب المرأة ترقي الرجل حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، فأمسح بيد نفسه لبركتها».

وقولها: " فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن"
قال ابن حجر-رحمه الله- في فتح الباري (10/ 211): وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ... أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ. اه

فهذه عائشة-رضي الله عنها- كانت ترقي النبي- صلى الله عليه وسلم- في مرضه، وكان ذلك ليس باجتهادٍ منها وإنما بأمرٍ وطلبٍ منه عليه الصلاة والسلام كما يفيده كلام ابن حجر-رحمه الله- هنا، وأما الحديث الذي أشار إليه ابن حجر فهو في الباب الذي قبل هذا الباب، بعنوان( باب النفث في الرقية) عن عائشة، رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، نفث في كفيه بقل هو الله   أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده» قالت عائشة: «فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به» اه

واسم الإشارة " ذلك " يعود إلى: النفث والقراءة والمسح.
قاله القسطلاني في إرشاد الساري (8/ 394).

ومن هذا يتبيّن أن النبي- صلى الله عليه وسلم- طلب الرقية من عائشة وأمرها بذلك، وأن تقوم بما كان يفعله بنفسه من القراءة، والنفث، والمسح باليد على ما أمكن من جسده، وهي رضي الله عنها امتثلت أمره فكانت تقرأ عليه وتنفث، لكنها لم تقم بمسح جسده بيدها، وإنما أخذت تحرّك يده على جسده، وعللت ذلك بقولها: "فأمسح بيد نفسه لبركتها" وهذا هو الذي جعلها تعدل عن المسح بيدها، وما ذلك إلا رجاء بركة يده- صلى الله عليه وسلم-.

وإذا تبين هذا وأنه عليه الصلاة والسلام استرقى وطلب  الرقية من عائشة بل وأمرها بذلك ، ففي هذا دلالة واضحة في أن طلب الرقية لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن طلب الرقية المأذون فيها شرعًا لا يدخل في قوله: " هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" في حديث السبعين ألفًا، ولا يصح أن يُقال إن هذا خاص بالنبي- صلى الله عليه وسلم- فإن الأصل أن أفعاله كلها محل الأسوة والقدوة مالم يقم الدليل على الخصوصية، وقد قال الله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ).

ومما سبق يتبين لك الوهم الذي وقع فيه مَن قال بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يطلب الرقية من أحد، مع أن هذا الحديث موجود في صحيح البخاري، وقد تقدّم كلام العلماء عليه.

3- أنه قد ثبت عن بعض كبار الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم استرقوا، كما ثبت عن عائشة- رضي الله عنها-. ( انظر السلسلة الصحيحة 6/1167 ) وكذلك ثبت عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنه- أنه استرقى واكتوى ( انظر موطأ الإمام مالك، باب تعالج المريض ص718 ).
ولهذا نجد أن حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبدالبر قال في كتابه التمهيد (2/610 ): " قد يحتمل أن يكون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم لايسترقون ولا يكتوون أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه منهي عنه أو يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله" اه

وعلى هذا فإن المسلم إذا طلب الرقية المأذون فيها شرعًا، أو اكتوى على وجهٍ غير مكروه فإن هذا لا ينفي عنه أن يكون من جملة هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب -إذا استوفى وحقق بقية الصفات - كما هو ظاهر صنيع من ذكرنا من الصحابة، وهم رضوان الله عليهم لاشك أنهم حريصون على تحصيل هذه الفضيلة كما لا يخفى .


وحتى نزيد الأمر وضوحاً نذكر كذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم- التي تبين أنهم كانوا يكتوون ، وإنما نذكرها لأنها تتعلق بالكي وهو أحد الأمور المذكورة في الحديث : " لايسترقون ولايكتوون ولا يتطيرون " وهذه الآثار من مصنف ابن أبي شيبة ( باب في الكي ، من رخص فيه ) في المجلد الخامس .

أ - عنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ، وَاسْتَرْقَى مِنَ الْعَقْرَبِ».
وهذا الأثر تقدمت الإشارة إليه لكن من موطأ الإمام مالك ، وتأمل قوله استرقى من العقرب فهو صريح في طلب الرقية ، وكذلك قوله اكتوى فإنه يعني طلب الكي.

ب - عَنْ جَرِيرٍ: «أَقْسَمَ عَلَيَّ عُمَرُ لَأَكْتَوِيَنَّ»
فهذا عمر رضي الله عنه يُقسم على جرير بأن يكتوي ، والصحابة رضي الله عنهم حريصون على التواصي في الخير ولا يظن في عمر رضي الله عنه أنه يُفوَِت على جرير الفضل الوارد في حديث السبعين لو كان الكي بأي نوع منه يدخل في الحديث ، وهذا مما يدُلك على أنهم لم يفهموا من الحديث ترك الإكتواء مطلقاً ، وإنما ترك صورةٍ من صوره كانت معروفةً معهودة ذات طابع عقدي معين ينافي التوكل على الله تعالى وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد أن الكي علاج فعال وحاسم بذاته وطبعه لا أنه مجرد سبب قد ينفع وقد لا ينفع وارجع إلى ما قرره ابن قتيبة في كتابة تأويل مختلف الحديث ( ص : 462 ) حينما تكلم على حديث" لم يتوكل من اكتوى واسترقى " ، وسيتبين لك هذا الأمر بوضوح .

ت - عن أَنَسٍ: «أَنَّهُ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ»
وهذا أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطال الله في عمره ويبعُد أنه لم يطلع على حديث السبعين ألفاً ، ومع ذلك اكتوى رضي الله عنه .

ث - عن مُطَرِّفِ بْنِ شِخِّيرٍ، قَالَ: كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: «يَنْهَى عَنِ الْكَيِّ، ثُمَّ اكْتَوَى بَعْدُ»
وهذا عمران بن حصين رضي الله عنه اكتوى أيضاً وقد يكون قد تغير اجتهاده لأنه كان ينهى عن الكي في السابق .

فما سبق من الآثار عن هؤلاء الصحابة من تعاطيهم للكي قد يرجحوا ماذكرناه ، وأنا لم استقصى جميع الآثار الواردة عنهم في هذا الباب حتى لايطول المقال وإنما أُشير هنا إلى بعضها وقد يُسهل الله
جمعها في دراسةٍ بحثية مطوله                                                                             يتبع =
                                
                                                                                                                                        


.

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -