Posted by : مجالي البوق الاثنين، 16 ديسمبر 2019




تأملات في أحاديث الرقية ( 3 ) :

تابع الكلام عن حديث السبعين ألفاً ومن صفاتهم أنهم لايسترقون :
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل  متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها ( تأملات في أحاديث الرقية )، أورد فيها بعض الأحاديث ، ومايُستفاد منها من فقه وعلم .

وهذا هو المقال الثالث ونتابع فيه الكلام عن حديث : " هم الذين لايتطيرون ولايسترقون ولايكتوون وعلى ربهم يتوكلون " ، والذي كنا قد ابتدأنا الكلام عنه في المقال الثاني ، وخلاصة ماذكرناه أن معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ولايسترقون " أي: لا يطلبون الرقى المحرمة، وقد أوردنا بعض الأدلة التي تؤيد هذا المعنى الذي رجحناه، ونتابع في هذا المقال ذكر بقية الأدلة حتى يطمئن القلب إلى تقرير هذا المعنى وتأكيده .

4 - إن مَن تأمّل هذا الحديث الذي يذكر صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب وقدرهم سبعون ألفاً من هذه الأمة، يجد أن خاتمة هذه الصفات والجامعة لها قوله عليه الصلاة والسلام : " وعلى ربهم يتوكلون " على ربهم - أي: لا على غيره - يتوكلون، فهذه الجملة تفيد الحصر وأنهم يتوكلون على الله وحده، وحقيقة التوكل هو: صدق اعتماد القلب على الله في جلب النفع أو دفع الضر، ولايعارضه فعل الأسباب التي تؤدي إلى حصول منفعة أو دفع مضرة .

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الاسترقاء والاكتواء ينافي التوكل؟
والجواب: أنه إن كان الاسترقاء والاكتواء على صورةٍ مأذونٌ فيها شرعاً وليست محرمة فإن هذا لايُنافي التوكل؛ لأن التداوي بفعل الأسباب المباحة لايُنافي التوكل، فلما ختم صفاتهم بهذه الصفة " وعلى ربهم يتوكلون " كان في هذا إشارة إلى أن الاسترقاء والاكتواء الذي يتركونه ولايفعلونه هو الاسترقاء والاكتواء المذموم شرعاً، وحتى نزيد هذا الأمر وضوحاً نقول إن النصوص الواردة في شأن الرقى إذا تأملناها نجد أنها في الغالب تتحدث عن الصورة المعهودة الموجودة والمنتشرة في ذلك الوقت وهي الرقى الجاهلية التي يغلب عليها أنها من الرقى الشركية المحرمة .

خذ على سبيل المثال هذا الحديث المعروف المشهور حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرقى، والتمائم، والتولة شرك" (انظر السلسلة الصحيحة 649 /1) فهذا الحديث لو أخذنا بعمومه - لأن لفظ الرقى لفظ عام - لكانت كل رقية سواءً من القرآن أو من غيره شرك كما يدل عليه منطوق الحديث، وهذا لايقول به أحد من العلماء، فتعيّن أن الرقى المذكورة هنا في الحديث هي الرقى الجاهلية الشركية ولذلك وصفها بأنها شرك، أما الرقى من القرآن والأذكار والأدعية النبوية فهذه جائزة بإجماع العلماء، وكذلك التمائم في هذا الحديث المقصود بها التمائم الشركية التي كانت موجودة في الجاهلية وأما التمائم التي من القرآن، والأذكار، والأدعية النبوية فهذه ليست من الشرك ولا تدخل في الحديث وقد ورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كعبدالله بن عمرو بن العاص كان يعلّق التميمة فيها
ذكر ودعاء للوقاية من الفزع على صدور أبنائه ( حسنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح 25 / 3 )

وكذلك حينما نقرأ أحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من اكتَوَى أو استرقَى ؛ فقد برِئَ من التوكلِ"
رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وقال: حديث حسن صحيح، وقد ( صحح النووي إسناده في المجموع 63 / 9 ) ، ( وانظر السلسة الصحيحة للألباني ح 244 ) ، وهذا الحديث كما ترى لو أخذنا بظاهره لكان كل من استرقى أو اكتوى قد برئ من التوكل، وهذا معناه أنه ليس عنده
توكل على الله، وعلى هذا يكون الاسترقاء والاكتواء محرماً، وهذا إنما يكون صحيحاً إذا كان الاسترقاء والاكتواء على وجهٍ محرم شرعاً، فالحديث هنا -كذلك يتحدث عن الرقية الشركية الموجودة في الجاهلية التي من استرقى بها فقد برئ من التوكل ويتحدث كذلك عن صورة من صور الكي الموجودة في الجاهلية التي من فعلها فقد برئ من التوكل وقد تقدم الكلام على بيان هذه الصورة في المقال السابق فليرجع إليه .

وفي حديث عوف بن مالك الذي رضي الله عنه قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يارسول الله ، كيف ترى في ذلك فقال : اعرضوا علي رقاكم ، لابأس بالرقى مالم يكن فيه شرك ">{ح 2200}
وهذا يؤكّد أن الرقى الممنوعة هي الرقى الشركية ، وأما الرقى التي ليست شركاً فإنها لابأس بها، وهي جائزة .

إذا تبيّن هذا فإن سياق هذا الحديث الذي معنا
في شأن السبعين ألفا ً الذين يدخلون الجنة بغير حساب لايخرج عن هذا الإطار الذي رسمته هذه الأحاديث المتعلقة بالرقية والتي ذكرنا أمثلة لها ، وهذا مما يجعلنا نرجح أن الاسترقاء والاكتواء الممنوع في هذا الحديث هو ماكان على وجهٍ مذموم شرعاً، وأما من استرقى أو اكتوى على الوجه الذي أذن فيه الشرع فإنه لايخرج عن كونه متوكلاً على ربه، ولايفوته هذا الفضل بإذن الله إذا حقق التوكل على ربه -سبحانه وتعالى- في بقية شؤون حياته .

ومما يُعضِّد هذا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ذكر التطيّر مع الاسترقاء والاكتواء، ومعلومٌ أن الطِيَرة من الشرك، وكونه يذكرُها مع الاسترقاء والاكتواء قد يُشعر بوجود علاقةٍ أو شبه بين هذه الأمور الثلاثة التطير والاسترقاء والاكتواء ، وهذا الشبه هو كونُها كلها منهيٌ عنها شرعاً وتنافي التوكل على الله ، وإنما تكون كذلك إذا كانت على وجهٍ منهي عنه كأن تكون الرقى
محرمة والاكتواء مع عقيدة فاسدة، والله أعلم .

5 - أن طلب الرقيةِ من المسلم من جنس طلب الدعاء منه وهو أمر جائز ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل من أفضل أصحابه -رضي الله عنهم -وهو عمر بن الخطاب في شأن أويس بن عامر: " إن استطعت أن يستغفر لك فافعل ". وفي رواية: " فمن لقيه فليستغفر لكم ". (رواه مسلم "2542") ، وهذا الوجه من الاستدلال إنما ذكرناه ردًا على من يمنع طلب الرقية من الغير بناءً على مافهمه من لفظة "لايسترقون" الواردة في الحديث ، معللاً ذلك بأن هذا فيه نوع من التذلل، والانكسار، وتعلّق طالب الرقية بالراقي، وهذا كله موجودٌ في طلب الدعاء من الغير، فهل نقول بكراهة طلب الدعاء من الصالحين لأجل هذه العلة التي ذكروها ؟ نعم، قد قال بعض العلماء بكراهة طلب الدعاء؛ لما يتضمنه من الذل، والانكسار، والتعلق بهذا الداعي الذي يدعو له، ولكن لو قدّرنا أن هذه العلة صحيحة وموجودة فإنه مع ذلك قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفاروق -رضي الله عنه- أنه متى لقي ذلك الرجل البار بأمه أويس القرني فإنه يطلب منه أن يستغفرله، مع أن أويس القرني ليس من الصحابة ، ومع أن عمر -رضي الله عنه- من المبشرين بالجنة ومع ذلك أمره بأن يطلب منه الاستغفار له، ولا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بشيء فيه مفسدة بوجه من الوجوه
أو أمر يُذمُّ شرعاً ، ولو قدّرنا أن هذه العلة صحيحة ولازمة لكل من طلب الدعاء من الغير فإن هذا يكون أمراً غير مؤثر ومغتفر؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وكما جاء طلب الدعاء من قوله وأمره فكذلك جاء طلب الدعاء من فعله عليه الصلاة والسلام وذلك كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-
أنه استأذن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في العمرةِ فقال : أي أُخيَّ أشركْنا في دعائِك ولا تنسَنا
وهذا الحديث صححه جماعة من أهل العلم منهم ابن حجر في ( تخريج مشكاًة المصابيح 414 /2 )،
(والنووي في رياض الصالحين ص 180 ) ، ( والمنذري في الترغيب والترهيب 323 / 4 ) .

وهذا كله تعليمٌ وإرشادٌ لأمته عليه الصلاة والسلام وإلا فإنه ليس في حاجة لأن يدعو له أحد من أمته
كما لا يخفى، والله أعلم .

6- إن العلاج عن طريق الرقية الشرعية، وعن طريق الكيّ هو من التداوي الذي أمر به رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن أسامة بن شُريك: قال: قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: " نعم، يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء إلا داء واحدا " قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: «الهرم».
وقد صححه الألباني-رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي ح2038، باب ما جاء في الدواء والحث عليه.
وقوله: " تداووا" هذا أمر، وأقل أحوال الأمر أن يفيد الاستحباب فالتداوي بالمباحات أمرٌ مستحب، والأمر بالتداوي هنا عام يشمل: التداوي بكل ما هو جائز، والاسترقاء والاكتواء هو من التداوي، ويدخل في عموم هذا الأمر طالما كان الاسترقاء والاكتواء على وجهٍ مأذون فيه شرعًا كما تقدّم، والتداوي لا يُنافي التوكل، ولذلك قلنا إن قوله عليه الصلاة والسلام: " هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون " أن هذا في شأن الاسترقاء والاكتواء غير المأذون فيه شرعًا؛ لأنه ينافي التوكل، وأما ما كان مأذونٌ فيه شرعًا فإنه لا يُنافي التوكل وبالتالي لا يدخل في هذا الحديث، والرقية والكي هما من جملة الأمور التي يداوى بها الناس ولاشك أن التداوي بالقرآن والأدعية والأذكار النبوية أفضل من التداوي بغيرها؛ لأن ذلك من شأنه أن يُعلّق قلب الإنسان بربّه ويزيده إيمانًا ويقينًا بتأثير ونفع كلام ربه وبالدعاء وبالذكر الذي جاء عن نبيه محمد-صلى الله عليه وسلم-.
ومعلومٌ أن المريض قد يحصل له نوع تعلق بالطبيب الذي يعالجه بالدواء الذي يستشفي به، ومع ذلك فإن الرسول-صلى الله عليه وسلم- أمر بالتداوي.
والذي ينبغي على المسلم أنه يستعمل هذه الأدوية والرقى ويُعلّق قلبه بالله سبحانه وتعالى في حصول الأثر والمنفعة المرجوة منها، ولا يجوز أن يعتقد المسلم أن هذا الدواء أو هذه الرقية مؤثرة بذاتها؛ لأن هذا مما ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب وعدم الاعتماد عليها، والله أعلم.

قال ابن القيم-رحمه الله-: " وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل" ( انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 14).
ومن كلامه هذا رحمه الله يتبيّن لنا أن ترك الأسباب يقدح في التوكل، فالعبد يباشرها ويفعلها ويعتمد على الله في حصول أثرها ونفعها، ولذلك فإن العبد إذا نزل به الداء فإنه يُشرع له أن يسلك سبل التداوي لرفع هذا الداء ودفعه، ومن ذلك أنه يسترقي ويكتوي وكل هذا لا ينافي التوكل بل تركه هو الذي قد يقدح في التوكل، والمهم أنه يبتعد عن التداوي بالرقى الشركية المحرمة، والكي في الصورة التي نهى عنها الشرع وهي الكي المصاحب للإعتقاد الفاسد الذي كان عليه العرب في الجاهلية ، وبهذا يسلم من أن يفوّت على نفسه الفضل الوارد في الحديث، والله أعلم.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -