Posted by : مجالي البوق الاثنين، 16 ديسمبر 2019

تأملات في أحاديث الرقية (2)

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها ( تأملات في أحاديث الرقية  أورد فيها بعض الأحاديث ، وما يُستفاد منها من فقه وعلم .

وهذا هو المقال الثاني من هذه السلسلة وهوبعنوان:

"الكلام على حديث لايسترقون ":

قد يقول قائل ذكرتم في المقال السابق الذي تحدثتم فيه عن مراعاة مبدأ التخصص في شأن الرقية ، عدة أحاديث لتقرير هذا المبدأ ، ولكن إذا كان الأمر كما ذكرتم وأن المسلم يشرع له التماس
الراقي المتخصص في الرقية حتى يقوم برقيته والقراءة عليه ، ألا يُشكل على هذا الفهم حديث لا يسترقون الآتي وماهو الجواب عنه
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :

خَرَجَ عَلَيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُلُ، والنبيُّ معهُ الرَّجُلَانِ، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ، ورَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فقِيلَ: هذا مُوسَى وقَوْمُهُ، ثُمَّ قيلَ لِي:   انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وهَكَذَا، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقِيلَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، ومع هَؤُلَاءِ   سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ ولَمْ يُبَيَّنْ لهمْ، فَتَذَاكَرَ أصْحَابُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالوا: أمَّا نَحْنُ   فَوُلِدْنَا في الشِّرْكِ، ولَكِنَّا آمَنَّا باللَّهِ ورَسولِهِ، ولَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أمِنْهُمْ أنَا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ:  أمِنْهُمْ أنَا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بهَا عُكَاشَةُمتفق عليه 

فقوله في الحديث لايسترقون أي أنهم لايطلبون الرقية ، وهذه صفة من صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل مسلم حريص على أن ينال هذا الفضل وأن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فكيف نقول للناس اطلبوا الرقية من الغير ومن المتخصصين فيها ونفوّت عليهم هذا الفضل ؟
أليس من الأفضل أن نرشدهم إلى أن يقرأوا على أنفسهم بأنفسهم ولا يطلبوا ذلك من غيرهم ؟

فنقول جواباً على هذا : نعم قد قال بهذا القول بعض العلماء من السلف والخلف ونحن نحترم قولهم هذا وهم قد بنَوْ هذا القول على مافهموه من قوله لايسترقون وأنه بمعنى لايطلبون الرقية سواءً كانت رقية شرعية مأذون فيها أم رقية غير شرعية وغير مأذون فيها ، ولكن هناك علماء آخرون فهموا قوله لايسترقون بمعنى أنهم لايطلبون الرقية المحرمة غير الشرعية التي لم يأذن فيها الشرع وأما من طلب الرقية الشرعية المأذون فيها فإنه لايدخل في هذا الحديث ولايُحرم من هذا الفضل إذا استوفى بقية الصفات المذكورة في الحديث وهذا القول أصح
وهو الراجح وذلك لما يأتي من الأدلة .

1 - ذكر الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه في باب رقية العين ، حديث عائشة رضي الله عنها قالت أمَرنِي رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلم أو أمر أن يُسترقى من العين

ورواه مسلم بلفظ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ العَيْنِ .

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة بالاسترقاء من العين وأقل أحوال الأمر هُنا أنه يُفيد
الاستحباب ، وعائشة رضي الله عنها لها من المكانة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ماليس لغيرها وقد كانت أحب الناس إليه فهل يُعقل أن يأمرها بشيء يفو‍‍‍‍‍‍ًّت عليها الفضل الوارد في الحديث وأن تكون من جملة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ؟!

لاشكّ أن النبي عليه الصلاة والسلام حريص على أمته وهو أشد حرصاً على أهل بيته وعلى أن ينالوا مثل هذا الفضل ، وهذا مما يدلك ويبين لك أن معنى قوله لايسترقون أي لايطلبون رقيةً غير شرعية وغير مأذون فيها شرعاً ، ولو كان المعنى الثاني صحيحاً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه بأن تطلب الرقية من غيرها ويفوّت عليها
مثل هذا الفضل ، وتأمل معي كيف أنه لم يرشدها
إلى أن ترقي نفسها بنفسِها وأن هذا هو الأفضل ،وهذا كله مما يؤكد لك أن أمره لها بالرقية من العين
لاينافي الأفضل ولا يُخرجها أن تكون من جملة الذين يدخلون الجنة بغير حساب .



2 - وذكر الإمام البخاري كذلك في باب المرأة ترقي الرجل حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، فأمسح بيد نفسه لبركتها».

وقولها: " فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن"
قال ابن حجر-رحمه الله- في فتح الباري (10/ 211): وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ... أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ. اه

فهذه عائشة-رضي الله عنها- كانت ترقي النبي- صلى الله عليه وسلم- في مرضه، وكان ذلك ليس باجتهادٍ منها وإنما بأمرٍ وطلبٍ منه عليه الصلاة والسلام كما يفيده كلام ابن حجر-رحمه الله- هنا، وأما الحديث الذي أشار إليه ابن حجر فهو في الباب الذي قبل هذا الباب، بعنوان( باب النفث في الرقية) عن عائشة، رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، نفث في كفيه بقل هو الله   أحد وبالمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده» قالت عائشة: «فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به» اه

واسم الإشارة " ذلك " يعود إلى: النفث والقراءة والمسح.
قاله القسطلاني في إرشاد الساري (8/ 394).

ومن هذا يتبيّن أن النبي- صلى الله عليه وسلم- طلب الرقية من عائشة وأمرها بذلك، وأن تقوم بما كان يفعله بنفسه من القراءة، والنفث، والمسح باليد على ما أمكن من جسده، وهي رضي الله عنها امتثلت أمره فكانت تقرأ عليه وتنفث، لكنها لم تقم بمسح جسده بيدها، وإنما أخذت تحرّك يده على جسده، وعللت ذلك بقولها: "فأمسح بيد نفسه لبركتها" وهذا هو الذي جعلها تعدل عن المسح بيدها، وما ذلك إلا رجاء بركة يده- صلى الله عليه وسلم-.

وإذا تبين هذا وأنه عليه الصلاة والسلام استرقى وطلب  الرقية من عائشة بل وأمرها بذلك ، ففي هذا دلالة واضحة في أن طلب الرقية لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن طلب الرقية المأذون فيها شرعًا لا يدخل في قوله: " هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" في حديث السبعين ألفًا، ولا يصح أن يُقال إن هذا خاص بالنبي- صلى الله عليه وسلم- فإن الأصل أن أفعاله كلها محل الأسوة والقدوة مالم يقم الدليل على الخصوصية، وقد قال الله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ).

ومما سبق يتبين لك الوهم الذي وقع فيه مَن قال بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يطلب الرقية من أحد، مع أن هذا الحديث موجود في صحيح البخاري، وقد تقدّم كلام العلماء عليه.

3- أنه قد ثبت عن بعض كبار الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم استرقوا، كما ثبت عن عائشة- رضي الله عنها-. ( انظر السلسلة الصحيحة 6/1167 ) وكذلك ثبت عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنه- أنه استرقى واكتوى ( انظر موطأ الإمام مالك، باب تعالج المريض ص718 ).
ولهذا نجد أن حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبدالبر قال في كتابه التمهيد (2/610 ): " قد يحتمل أن يكون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم لايسترقون ولا يكتوون أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه منهي عنه أو يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله" اه

وعلى هذا فإن المسلم إذا طلب الرقية المأذون فيها شرعًا، أو اكتوى على وجهٍ غير مكروه فإن هذا لا ينفي عنه أن يكون من جملة هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب -إذا استوفى وحقق بقية الصفات - كما هو ظاهر صنيع من ذكرنا من الصحابة، وهم رضوان الله عليهم لاشك أنهم حريصون على تحصيل هذه الفضيلة كما لا يخفى .


وحتى نزيد الأمر وضوحاً نذكر كذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة - رضي الله عنهم- التي تبين أنهم كانوا يكتوون ، وإنما نذكرها لأنها تتعلق بالكي وهو أحد الأمور المذكورة في الحديث : " لايسترقون ولايكتوون ولا يتطيرون " وهذه الآثار من مصنف ابن أبي شيبة ( باب في الكي ، من رخص فيه ) في المجلد الخامس .

أ - عنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ، وَاسْتَرْقَى مِنَ الْعَقْرَبِ».
وهذا الأثر تقدمت الإشارة إليه لكن من موطأ الإمام مالك ، وتأمل قوله استرقى من العقرب فهو صريح في طلب الرقية ، وكذلك قوله اكتوى فإنه يعني طلب الكي.

ب - عَنْ جَرِيرٍ: «أَقْسَمَ عَلَيَّ عُمَرُ لَأَكْتَوِيَنَّ»
فهذا عمر رضي الله عنه يُقسم على جرير بأن يكتوي ، والصحابة رضي الله عنهم حريصون على التواصي في الخير ولا يظن في عمر رضي الله عنه أنه يُفوَِت على جرير الفضل الوارد في حديث السبعين لو كان الكي بأي نوع منه يدخل في الحديث ، وهذا مما يدُلك على أنهم لم يفهموا من الحديث ترك الإكتواء مطلقاً ، وإنما ترك صورةٍ من صوره كانت معروفةً معهودة ذات طابع عقدي معين ينافي التوكل على الله تعالى وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد أن الكي علاج فعال وحاسم بذاته وطبعه لا أنه مجرد سبب قد ينفع وقد لا ينفع وارجع إلى ما قرره ابن قتيبة في كتابة تأويل مختلف الحديث ( ص : 462 ) حينما تكلم على حديث" لم يتوكل من اكتوى واسترقى " ، وسيتبين لك هذا الأمر بوضوح .

ت - عن أَنَسٍ: «أَنَّهُ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ»
وهذا أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطال الله في عمره ويبعُد أنه لم يطلع على حديث السبعين ألفاً ، ومع ذلك اكتوى رضي الله عنه .

ث - عن مُطَرِّفِ بْنِ شِخِّيرٍ، قَالَ: كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: «يَنْهَى عَنِ الْكَيِّ، ثُمَّ اكْتَوَى بَعْدُ»
وهذا عمران بن حصين رضي الله عنه اكتوى أيضاً وقد يكون قد تغير اجتهاده لأنه كان ينهى عن الكي في السابق .

فما سبق من الآثار عن هؤلاء الصحابة من تعاطيهم للكي قد يرجحوا ماذكرناه ، وأنا لم استقصى جميع الآثار الواردة عنهم في هذا الباب حتى لايطول المقال وإنما أُشير هنا إلى بعضها وقد يُسهل الله
جمعها في دراسةٍ بحثية مطوله                                                                             يتبع =
                                
                                                                                                                                        


.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -