Posted by : مجالي البوق الثلاثاء، 10 ديسمبر 2019

تأملات في أحاديث الرقية (1)

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه سلسلة من المقالات في الكلام على مسائل متعلقة بالرقية وما يتصل بها، أسميتها ( تأملات في أحاديث الرقية )، أورد فيها بعض الأحاديث، وما يُستفاد منها من فقه وعلم.
               
مراعاة مبدأ التخصص:

1 - روى البخاري عن أم سلمة- رضي الله عنها-: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَأَى في بَيْتِها جارِيَةً في وجْهِها سَفْعَةٌ، فقالَ: "اسْتَرْقُوا لَها، فإنَّ بها النَّظْرَةَ".

قوله: "النظرة" أي: العين، وقيل: العين من الجن.

والاسترقاء: هو طلب الرقية. قال ابن الأَثير في بيان معنى حديث "اسْتَرْقُوا لهَا فإنَّ بها النَّظْرَة" أَي: اطْلُبوا لها من يَرْقِيها. أهـ. غريب الحديث،2/255.

قال ابن حجر: " فلذلك أذن - صلى الله عليه وسلم - في الاسترقاء لها، وهو دالٌ على مشروعية الرقية من العين". فتح الباري، شرح الحديث 5407

فتأمل كيف أنه عليه الصلاة والسلام لم يُرشد الجارية إلى أن ترقي نفسها، ولم يطلب من الحاضرات عندها أن يقرأوا عليها، بل قال لهن: " استرقوا لها " أي: اطلبوا لها من يرقيها.

وهذا يدلك على أن الرقية تخصص يُراعى، ولو كان كل أحدٍ يرقي لما طلب منهن أن يسترقوا لها، ولاحظ أن من الحاضرات بعض أمهات المؤمنين، ولا يُظن فيهن الجهل أو عدم المعرفة بالقرآن، فهذا فيه مراعاة مبدأ التخصص، وأن الرقية إنما تُطلب من المتخصصين فيها، والله أعلم.

2- روى البخاري ومسلم عن عائشة- رضي الله عنها-: كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ العَيْنِ.
وتأمل هنا كيف لم يأمرها أن تقرأ على نفسها، وترقي نفسها، بل أمرها أن تسترقي، أي: تطلب الرقية من الغير، المتخصص فيها، حتى يرقيها.


3- روى مسلم عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- قال: لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَرْقِي؟ قالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ.

5779- [...] ابنُ جُرَيْجٍ، بهذا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غيرَ أنَّهُ قالَ: فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَرْقِيهِ يا رَسولَ اللهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَرْقِي.

وفي هذا الحديث كذلك لم يطلب من اللديغ أن يرقي نفسه، وأذِن لمن تبرّع بالرقية أن يرقيه، ولم يقم بهذه الرقية راوي الحديث جابر - رضي الله عنه- وإنما قام بها أحد الحاضرين والذي يظهر أنه يعرف الرقية ولذلك استأذن الرسول في أن يرقيه- كما في الرواية الثانية- وتأمل كذلك كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم هو برقيته وهذا كله تعليمٌ وإرشاد للأمة لمراعاة المتخصص في هذا الشأن، والله أعلم.


4-روى ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أنه قال: بعثَنا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في سَريَّةٍ فمرَرْنا على أهلِ أبياتٍ فاستضَفْناهم، فأبَوْا أنْ يُضيِّفونا، فنزَلوا بالعَراءِ فلُدِغ سيِّدُهم فأتَوْنا فقالوا : هل فيكم أحَدٌ يَرقي ؟ قال : قُلْتُ : نَعم أنا أَرقي قالوا : ارقِ صاحبَنا قُلْتُ : لا قد استضَفْناكم فأبَيْتُم أنْ تُضيِّفونا قالوا : فإنَّا نجعَلُ لكم جُعْلًا قال : فجعَلوا لي ثلاثينَ شاةً قال : فأتَيْتُه فجعَلْتُ أمسَحُه وأقرَأُ بفاتحةِ الكتابِ حتَّى برَأ فأخَذ الشَّاءَ فقُلْنا : نأخُذُها ونحنُ لا نُحسِنُ نَرقي فما نحنُ بالَّذي نأكُلَها حتَّى نسأَلَ عنها رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فأتَيْناه فذكَرْنا ذلك له قال : فجعَل يقولُ : " وما يُدريكَ أنَّها رُقْية" ؟ قال : قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ ما درَيْتُ أنَّها رُقْيةٌ شيءٌ ألقاه اللهُ في نفسي فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : " كُلوا واضرِبوا لي معكم بسَهمٍ ".

صحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريجه لصحيح ابن حبان ح 6112، وأصله في الصحيحين.

تأمل قولهم: نأخُذُها ونحنُ لا نُحسِنُ نَرقي فما نحنُ بالَّذي نأكُلَها حتَّى نسأَلَ عنها رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وهذا يدلك على أنه كان من المتقرر عندهم أن الرقية لها رجالها، وأنه ليس كل أحدٍ يمكنه أن يتصدّى للرقية والقراءة على الناس، وتوقفوا في الأكل من هذه الغنم التي أخذوها خشية أن يكون هذا الأجر ليس يحِل لهم؛ لأنهم لا يحسنون الرقية، ولكن لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وسأل أبا سعيد- رضي الله عنه- وسمع جوابه أقرّه، وصوّب اجتهاده، وأنه ممن يحسن الرقية، وأذن لهم في الأكل منها، وطلب منهم أن يعطوه منها حتى يأكل منها، ويقرر لهم الحل بالفعل بعد أن قرره بالقول؛ حتى تطمئن قلوبهم، ويزول ما في أنفسهم من شبهة.


5- أخرج الإمام أحمد، والترمذي وصححه، عن أسماء بنت عُميس- رضي الله عنها- أنها قالت : " يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟، قال: نعم، فلو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ".

حسنه شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند 27470، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2845.

فتأمل في هذا الحديث كيف أذِن لها النبي- صلى الله عليه وسلم- في أن تسترقي لأبناء جعفر، ولم يرشدها إلى أن تقوم بالرقية، وأقرّها على أن هذه الحال التي وصل إليها أبناء جعفر من نحول أجسامهم هو بسبب سرعة إصابة العين لهم، ولم يقل لها من العبارات ماقد نسمعه في كثير من الأحيان من بعض الناس كقولهم: انتِ موسوسة، أو قولهم: العين تركت الكفار وما جاءت إلا لك ولأبناءك، وغيرها من العبارات التي قد يُفهم منها عدم التصديق بتأثير العين، أو التقليل من شأن خطرها، أو إبعاد الناس عن العلاج بالرقية الشرعية بينما لا يجدون غضاضة في الأمر بالذهاب إلى الأطباء والمستشفيات، والله المستعان.

الخلاصة: دلّت هذه الأحاديث على مراعاة مبدأ التخصص في الرقية الشرعية، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يُرشد إلى طلب الرقية، وأنه لم يقم هو بالرقية، ولا طلب ممن أصيب بالعين، أو بلدغ العقرب أن يرقي نفسه بنفسه، وهذا منه صلى الله عليه وسلم تعليمٌ وإرشاد للأمة بأن يكون هناك من يِحسن الرقية، ويتخصص فيها حتى يمكن الذهاب إليه، وطلب الرقية منه.

ولا يعني هذا أن الإنسان لا يقرأ على نفسه، ولا يرقي نفسه بنفسه فإن هذا ليس ممنوعًا شرعًا، وإنما الكلام في أن طلب الرقية من الغير، والذهاب إلى مَن يرقي ليس أمرًا مستنكرًا، ولا مخالفًا للشرع، بل هو هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- حتى مع أحب الناس إليه الحصان الرزان أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حيث أمرها بالاسترقاء من العين ، ومن هنا نعلم أن ما يُطالب به البعض من الاقتصار على أن يقرأ الإنسان بنفسه على نفسه، أو أن يقرأ على أهله وذويه مع أنه لا يُحسن الرقية، ولا يُحسن التصرف مع المريض إذا طرأ عليه شيء، ليس أمرًا موافقًا للشرع، ولا لما جاء من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكرنا من الأحاديث، وغيرها كثير، بل وهناك آثار أيضًا عن الصحابة-رضوان الله عليهم- تسير في هذا الاتجاه، وتؤكد مراعاة التخصص في الرقية، ولكني لم أوردها خشية الإطالة، وفيما ذكرناه كفاية في توضيح ما أردنا تقريره في هذا الشأن، وهو: مراعاة مبدأ التخصص، والله وحده الموفق للصواب.




Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -