Posted by : مجالي البوق الخميس، 26 يونيو 2014




[حولَ الجدلِ المُتكرر في إثباتِ دُخولِ شهرِ رَمضان برؤيةِ الهِلال أو بحسابِ الفلكيين]
 (طرح من زاوية أخرى)

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, وبعد:

أريد في هذا المقال أن أطرحها من زاوية أخرى غَفِل عنها كثير من الكتاب, والذي حملني على كتابة هذا الموضوع هو الفهم المخطئ لدى الناس في عدم التفريق بين الحكم في الشرع وبين الحكم في نفس الأمر(في الواقع), وإذا فُهمت هذه الزاوية التي غابت عن كثير من الكتاب الشرعيين وغيرهم-فيما وقع تحت نظري من مقالات وكتابات-فإنه يزول بذلك الإشكال الذي يُطرح في كل سنة حول عدم إمكانية رؤية الهلال بحسب تقديرات الفلكيين وأنه لا يمكن ولادة الهلال حتى يُرى.

يقول بعضهم: أنه لا يصح أن يتعارض الدين مع معطيات العلم الحديث وأن هذا مما يبعث على التشكيك في مصداقية الأمور الشرعية والدينية.

وهذا الكلام فيه نوع من الخطأ والتلبيس مردُّه إلى أن قائله لم يفرق بين الحكم من ناحية شرعية وبين الحكم في نفس الأمر, وحتى يتضح هذا الأمر أقول:

إنَّ أمور الشريعة تقوم على أُسس وقواعد تُبنى على الظاهر حتى لو قُدر أن هذا الظاهر يُخالف الواقع في حقيقته, وهذا له صور عدة منها: الحكم للمنافق بأنه مسلم تجري عليه أحكام الإسلام من حل النكاح والتوارث والصلاة عليه وغير ذلك بينما هو في حقيقة الأمر كافر, ومنها لو أبصر شخصٌ شخصًا آخر وهو يمارس الفاحشة مع امرأة فإنه إذا لم يكتمل نصاب الشهادة في هذه الحال وهو أربعة شهود, فإن هذا الشخص إذا تكلم بما رآه يُعتبر كاذبًا قاذفًا وهذا هو الحكم الشرعي بينما هو في حقيقية الأمر صادق, قال تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النور:13) , فالحكم عند الله -وهو الحكم الشرعي- قد يختلف عن الحكم في نفس الأمر, ومنها أنه لو قُدر أن امرأة متزوجة أصابها رجل غير زوجها فحملت منه فإن هذا الولد يُنسب للزوج كما قال النبي-عليه الصلاة والسلام-:(الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولا يمكن أن ينفي الزوج هذا الولد إلا باللعان, وفي عصرنا الحاضر لو قُدر أن تحليل الحمض النووي (DNA) للولد لم يكن مطابقًا لتحليل الحمض النووي لوالده لم يكن هذا مدعاةً لأن ينفي الأب ابنه فضلًا عن أن يرميَ زوجته بالفاحشة وليس ببعيد عنا قصة الولدين السعودي والتركي في نجران.

وفي مسألتنا يريد بعض الناس أن يرتبط إثبات دخول شهر رمضان بحساب الفلكيين زاعمين أن الرؤية يتطرق إليها الخطأ فنقول:

إننا متعبدون بإثبات دخول الشهر برؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا, وحتى لو حصل الخطأ في الرؤية فإن هذا هو مقتضى الحكم الشرعي, هذا إذا فرضنا أن تقديرات الفلكيين ليست متناقضة ولا تحمل أي نسبة من الخطأ مهما قلّت.

إننا نقيم الحد على رجل فنقطع يده بشهادة رجلين وقد يكونا شهدا زورًا ولكن هذا هو حكم الله وسوف يُحاسب شهود الزور إن تبين أمرهم في الدنيا وإلا لم يفلتوا من العقاب في الآخرة -إذا شاء الله- وكذلك نحكم بقطع عنق رجل بناءً على شهادة رجلين والنبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه فإذا قضيت له فإنما أقضي له قطعة من نار) وقال: (إنما أقضي بنحو ما أسمع) وقد اتفق العلماء على أن المسلمين لو وقفوا في يوم عرفة خطأً صح وقوفهم وصح بالتالي حجهم وعلى هذا فالذي يريد أن يبني إثبات دخول الشهر على حسابات الفلكيين ويشكك في الرؤية إذا خالفت حساباتهم فلا شك أنه يريد أن يهدم هذه الأُسس والقواعد التي جاءت بها الشريعة ويريد أن يفتح بابًا عظيمًا من الشر؛ لأن مقتضى كلامه أننا لا نستوثق من صحة نسبة الابن إلى والده حتى نجري تحليل الحمض النووي بدعوى أن الدين لا يتعارض مع العلم والشرع لا يخالف الواقع وهذا باطل, وتأمل ما ورد في قصة المتلاعنين عن أَنَسَ بْنَ مَالِك -رضي الله عنه- أنه قال:

( إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لأُمِّهِ ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لاعَنَ ، فَلاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : انْظُرُوهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا أَقضَى الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ ، قَالَ : فَأُنبئت أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : " لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ ") (رواه مسلم), فالمعتبر هو ما مضى في كتاب الله أي ما دل عليه الحكم شرعًا وليس ما كان موافقًا للواقع ومن هنا يتبين أن عبارة [الشرع لا يخالف الواقع] ليست على إطلاقها وأن الشرع قد يبني أحكامه على أُسس وقواعد قد تخالف الواقع وقد توافقه والمعتمد هو حكم الشرع لا حكم الواقع.

 وأنا في هذا المقال لم أتعرض إلى شرعية اعتبار الحساب بإثبات دخول الشهر فهذه مسألة فقهية خلافية قديمة وإنما أردتُ الرد على من يُشكك في الرؤية إذا خالفت حسابات الفلكيين ويُثير البلبلة في المسلمين عن طريق أقواله وكتاباته ويجعل هذا طريقًا للتشكيك في أحكام الشرع كما يفعله كثير من العلمانيين في مقالاتهم التي تمتلئ بها صحفنا في هذا الوقت من كل عام والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد.


Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -