Posted by : مجالي البوق الخميس، 24 نوفمبر 2016



الأمة بين منهج التكفير السياسي ومنهج التكفير الشرعي




أحمدك ربي وأصلي على نبيك وبعد:

قال أحدهم: كيف يكون القذافي كافرًا وهو يقول لا إله إلا الله؟! وقد أتى إلى مكة غير مرةٍ معتمرًا‪!
‏يا جماعة منهج التكفير خطير‪ وهو منهج الخوارج‪!
‏هل هذا تكفير شرعيٌ أم سياسي؟‪!

‏ومن قبلها كان صدّام كافرًا لما غزا الكويت، ومن بعدها بشّار كافرٌ يقتل شعبه‪ رجالاً ونساءً وأطفالاً، ما يُدرينا غدًا إذا سقطت بعض الأنظمة تَخرج الفتاوى بأن رؤوسها كانت كافرة! اختلط الحابل بالنابل، فما هو الحق؟‪!

كانت هذه التغريدات تعليقًا على تغريدةٍ ذُكِر فيها أن سيف الإسلام القذافي اتصل بأحد العلماء وطلب منه أن يتكلم ويبين للناس عدم جواز الخروج على ولي الأمر فقال له الشيخ: أبوك كافر.

وكانت تلكم التغريدات تحمل هذه التساؤلات التي نسمعها كثيرًا، وأصبح الناس يشككون في مناهج التكفير، وأنه ليس هنالك إلا التكفير السياسي الذي تكون دواعيه غضب الأنظمة والحكومات في أي بلدٍ من البلاد على أشخاصٍ أو حكامٍ أو جماعات، فعندها قد يؤذن ببيان الحكم الشرعي وتكفير هذا الشخص أو الحاكم أو الجماعة المغضوب عليها، وجوابًا على هذه التساؤلات أقول مستعينًا بالله:

إن من أصول أهل السنة والجماعة تكفير من كفّرَه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن دلّت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة على تكفيره، وأن هذا التكفير عقيدةٌ يدين بها المسلم لربه ولا يخضع فيها للأهواء الباطلة والسياسات الجائرة التي لا تنضبط بشريعة الله المنزَّهة عن العبث

يقول تعالى:( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) وهي شهادة ألا إله إلا الله، فلا يتحقق التوحيد بدون الكفر بالطواغيت بأنواعها المختلفة، وقد نص أئمة الدعوة السلفية المباركة - رحمهم الله - على أن من لم يُكفّر الكافر أو شك في كفره فهو كافرٌ مثله، والمقصود بالكافر هنا: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الأصليين - بخلاف الكافر المرتد المختَلَف في تكفيره -، وقد كفّر اللهُ سبحانه في كتابه اليهود والنصارى والمشركين والآيات في هذا معلومة, أما هذا الجهل الذي سرى في الأمة موافقًا لعقيدة الإرجاء المبتدَعة الضالة، والتي تنص على أنه لا يضر مع الإيمان ذنبٌ كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وليس عندهم كفرٌ إلا ما ناقض تصديق القلب وهو كفر التكذيب؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو مجرد تصديق القلب فلا يرتفع إلا بتكذيب القلب وهو الاستحلال، وهذه من الطوام التي انتشرت في الأمة، والتساؤل الأول حول القذافي يعكس نموذجًا لهذا الجهل المنتشر، فهل الإسلام فقط أن ينطق المرء بالشهادتين ثم يأتي بعد ذلك بما ينقض الدين ثم يبقى على إسلامه؟!

مثالٌ واضحٌ لكي تُفنّد هذه الشبهة ما فعله الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأجمعوا عليه حينما قاتل الصديق - رضي الله عنه - المرتدين, لقد كان هؤلاء المرتدون من العرب لهم مساجد يؤذنون فيها ويقيمون الصلاة ويشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم جحدوا وأنكروا فريضة الزكاة فحكم عليهم الصحابة بالردة وقاتلوهم، فلم تنفعهم "لا إله إلا الله" ولا الصلاة في المساجد، وهكذا كل من قال "لا إله إلا الله" ثم خالفها بأقوالٍ أو أفعالٍ تناقض أصل الدين فإنه يكون قد خرج عن دائرة الإسلام، ولا تصبح شهادة ألا إله إلا الله عاصمةً لماله ودمه(١)، ومن بركات هذه الثورات أنه أصبح بإمكان أهل العلم أن يبينوا حكم الله في هؤلاء المجرمين وإن كانوا قبل ذلك لا يستطيعون إظهار هذه العقيدة وهذا الدين، والكلام ليس مختصًا ببلدٍ دون بلد.

وأما القول بأن منهج التكفير خطيرٌ فإنه إذا كان التكفير مستندًا إلى الأدلة الشرعية فلا خطورة فيه، إلا إذا كان المقصود أن من قام بتكفير شخصٍ معينٍ حاكمًا كان أو غيره - حتى ولو كان في تكفيره هذا موافقًا لما دلت عليه النصوص الشرعية - يكون الأمر خطيرًا في حقه، وليست الخطورة ها هنا خطورةً شرعيةً وإنما هي خطورةٌ لما يترتب على هذه الفتوى وهذا القول من تهديد قائله بالسجن وخلافه عند مخالفته سياسات الحكّام التي تأبى الحكم بشرع الله وبما يوافق كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وربما قالوا تكفير المعين أمرٌ خطيرٌ، يريدون أن يبقى التكفير فقط للأفعال والأقوال وهاهم يكفرون القذافي وبشّارًا ومِن قبلهما صدّامًا، وهم أشخاصٌ وقع التكفير عليهم بأعيانهم، وهل ذكر الفقهاء في كتبهم باب الردة وحد المرتد ليبقى كلامًا نظريًا لا يُطبق على الواقع؟! وهل إقامة حد الردة إلا فرعٌ عن تكفير شخصٍ بعينه؟! 

لقد كفّر أهل العلم القذافي لأنه صاحب الكتاب الأخضر الذي يشبه من بعض النواحي كتاب جنكيز خان (الياسق) الذي كفّره بسببه علماء الإسلام كابن تيمية وغيره، وذكره ابن كثير في تفسيره وتاريخه، وصدّام حينما حكموا بكفره وردته لم يكن لأنه قتل وشرّد أهل الكويت، ولكنه كان يدين بعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي، وإلا فإنه من المعروف أن لو قتل مسلمٌ أمّةً من الناس لم يكن بذلك كافرًا؛ لأن القتل كبيرةٌ من الكبائر، ومنهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفّرون المسلمين بارتكاب الكبائر من قتلٍ(٢) وزنٍا وسرقةٍ وشرب خمرٍ...إلخ, ولكنه مع الأجواء السياسية وما يبثه الإعلام يظن الناس أنه إنما كُفِّر لأنه قتل الآلاف، وهذا في الحقيقة هو منهج التكفير السياسي الذي يربي فيه الإعلامُ الشعوب على منهج الخوارج، فأصبح الناس يعتقدون هذا المعتقد الفاسد تبعًا للأنظمة والأحداث السياسية، حتى أصبح يُلبّس على الناس في مبررات ودواعي التكفير، ومثل هذا التلبيس عليهم في وصف الخارجين على الحكام بأنهم خوارج مع أن الخارجين قد لا يعتقدون عقيدة الخوارج، وقد يقرر هذا بعض من ينتسب للعلم، ولا شك أن هذا تلبيسٌ خطيرٌ يراد منه التنفير ممن قام بهذا الخروج ولكنه بأسلوبٍ خاطئٍ يلزَم منه لوازم باطلة. 

إن من يعتقد أن المسلم يكفر بارتكاب الكبيرة وأنه يخلد في النار هو من الخوارج وإن لم يقم بخروجٍ مسلحٍ على الولاة، ومن قام بخروجٍ مسلحٍ على الولاة لأغراضٍ سياسيةٍ أو غير ذلك لا يلزم أن يكون خارجيًا طالما أنه لا يعتقد عقيدة الخوارج، لقد قاتل بعض الصحابة عليٍا - رضي الله عنه وعنهم -، ولا يصح بحالٍ وصْفُهم بأنهم خوارج؛ بل لقد وصف العلماء قتالهم بأنه من باب قتال أهل البغي، وكان قتالهم سببًا في معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بقتال البغاة، وخرج الحسين على أحد  أمراء بني أمية وقُتل - رضي الله عنه - وفُجعَت الأمة بقتله، ومن الفجور أن يقال أنه من الخوارج إلا إذا قُصد الخروج السياسي فهذا شيءٌ آخر، وخرج محمد ابن عبد الله النفس الزكية - رحمه الله - على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي - عليه من الله ما يستحق - ولم يقل أحدٌ من علماء الأمة أنه من الخوارج، إذًا أصبحنا نعيش منهجًا جديدًا للتكفير وإطلاق وصف الخوارج تبعًا للسياسة وليس لما دلّت عليه النصوص الشرعية، والآن حينما تعلو الأصوات بكفر بشّار فليس لأنه يأمر أتباعه بذبح شعبه رجالاً ونساءً وأطفالاً، بل لأنه يعتقد نفس عقيدة صدّام حسين (عقيدة البعث) ولأنه ينتسب إلى النصيرية - إحدى الفرق الباطنية - التي يعتبرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بأنها أشد كفرًا من اليهود والنصارى, لقد أصبحنا نعيش تلبيسًا كبيرًا لمفاهيم العقيدة الإسلامية بفعل ما تقوم به وسائل الإعلام من مكرٍ بالليل والنهار، وبسبب هذا التلبيس تكسرت حواجز الولاء والبراء لدى الكثيرين من هذه الأمة, وأما عن الغد - وما أدراك ما يكون في غدٍ - فنَعَم سوف تظهر للأمة شخصياتٌ كانت توصف بالإسلام وتُمدَح بأنها تعمل على إعلاء كلمة الله ونشر دين الله إلى غير ذلك، ثم تفضح سيرتها الذاتية وما كانت عليه من أعمالٍ تناقض أصل الدين فيلعنهم الناس كما يلعنون القذافي وبشارًا.

مصيبتنا ليس في العوام الذين يُلبَّس عليهم وتُغسَل أدمغتهم ليلاً ونهارًا، وإنما في أناسٍ يشار إليهم بالبنان وأنهم من دعاة الإسلام وأنهم من العلماء، ثم تتلون مواقفهم كتلون الحرباء، أحدهم يحضر مؤتمراً في بغداد فيشيد ويمدح الرئيس صدّام حسين، ثم لما غزا الكويت أصبح هذا الرئيس الممدوح المشاد به كافرًا مرتدًا!! لقد كان سبب تكفيره قائماً يوم أن كان يمدحه ويمجده، ويدرك هذا الشيخ تمامًا أن قتل المئات أو الآلاف من النفوس المعصومة ليس مبررًا لتكفير صدّام أو غيره. وآخرٌ ذهب إلى تونس قبل الثورة فكان الرئيس زين العابدين بن علي محل الثناء والإطراء من قبل الشيخ والمفكر والداعية، وبعد خلع الرئيس تكلم ذلك الموصوف بتلك الصفات وذكر الرئيس المخلوع بما يستحقه من الوصف!! هذه هي مصيبتنا الحقيقية في هؤلاء الذين يتلونون كتلون الحرباء تظهر اللون الذي يحميها من تقييد حريتها وقتلها، ويركبون الموجة حتى يكسبوا الشعوب، ولو ثبتوا على مواقفهم في المدح والثناء والإطراء لهذه الرموز الفاسدة والرؤوس الكاسدة لبصقت عليهم الأمة وألقتهم مع هؤلاء الرموز إلى مزبلة التاريخ. 

اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس, اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يُعز فيه أهل الطاعة ويُذل فيه أهل المعصية, اللهم صل على محمدٍ وآله وبارك وسلّم*.




(١)وهذا من باب الإطلاق العام، وأما عند التعيين فلابد من مراعاة ضوابط التكفير بتحقق شروطه وانتفاء موانعه.
(٢) ومثله القتال ؛فإن قتال المسلمين هو من البغي والعداون عليهم وهو من الكبائر، أما من رأى أن قتال طائفة من المسلمين يُعتبر من الكفر فهذا قد جعل الكبيرة مُكفّرًا من المكفّرات التي يخرج بها المرء من دائرة الإسلام وهذا من عقيدةالخوارج الذين يُكفّرون بفعل الكبيرة، ومنهم في عصرنا البغدادي وجماعته ( داعش ) الذي كفّروا من يقاتلهم! وقد أجمع العلماء على أنه لا يكفر أحد بقتاله لأحد من المسلمين إلا إن قاتل نبيًا فعند ذلك يكون كافرًا مرتدًا، فخالفوا بتكفيرهم لمن قاتلهم هذا الإجماع ووافقوا ما عليه الخوارج من عقيدة ضالة وباطلة.
*كنتُ قد نشرت هذا المقال قبل أربع سنوات على تويت ميل وأعيد نشره هنا للفائدة مع بعض الزيادات والتوضيحات.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -