Posted by : مجالي البوق الأحد، 27 نوفمبر 2016



آيات السكينة



الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

ذكر ابن القيم-رحمه الله- في كتابه مدارج السالكين ضمن حديثه عن منزلة السكينة كلامًا مهمًا في فضل آيات السكينة وعظم أثرها في حصول طمأنينة القلب فقال: " وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور : قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له فى مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواحٍ شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال : فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي : اقرأوا آيات السكينة، قال : ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قٌلبة. 
وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته (1) " اهـ .

وآيات السكينة هي الآيات التي وردت فيها كلمة (سكينة ) أو 
( السكينة ) في القرآن الكريم، وهي في ستة مواضع:

 الأولى : قوله تعالى : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) البقرة : 248 

الثاني: قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) التوبة : 26 

الثالث : قوله تعالى: ( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) التوبة : 40 

الرابع : قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الفتح : 4 

الخامس : قوله تعالى : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح : 18 

السادس : قوله تعالى : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) الفتح : 26

وهذه القصة التي ذكرها ابن القيم عن شيخه ابن تيمية-رحمهما الله- فيها من الدلالات والفوائد ما ينبغي أن أشير إليه هنا فأقول:

لماذا يتعرض شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- إلى مثل هذا الهجوم القوي من الشياطين؟

الذي قرأ عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يدرك أنه كان يمارس الرقية الشرعية فقد كان يقرأ على المصروعين ومن به مس وكان ربما يستخدم الضرب في العلاج، وهذا الأمر معروفٌ عنه ولست بصدد الحديث عنه في هذا المقام، ولكن المقصود هو: بيان أن الشياطين قد يقومون بالهجوم على الراقي ؛لأنه في حالة حرب معهم وجهادٍ لهم ومتى ما رأوه في حالٍ ضعيفة-كحال المرض-ربما كثّفوا عليه الهجوم بُغية إيذائه والانتقام منه، مع أنه-رحمه الله- كان من أولياء الله الصالحين-نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا-وكان كثير الذكر لله عز وجل حيث كان يجلس من بعد صلاة الفجر وحتى وقت متأخر يذكر الله سبحانه وتعالى ويقول: " إنها  غدوتي إذا لم أتغدها خارت قواي سائر اليوم"(2).

لذلك لا يظن أحد أن الرقاة لا يتعرضون لأذى الشياطين وأنهم في مأمن من ذلك، وأنا بصفتي أمارس الرقية الشرعية تعتريني بعض الأحوال من جرّاء هجوم الشياطين عليّ في بعض الأوقات فلا أزال أدافعها بالقراءة والعلاج حتى تنجلي وتعود لي صحتي ونشاطي.

ثم تأمل-رحمك الله- كيف يصف ابن القيم هذه الواقعة التي جرت لشيخه بأنها عظيمة تعجز العقول عن حملها، نعم إن أمور الجن والشياطين لو أراد المرء أن يتكلم فيها وما يحصل منهم من الأذى والحرب لربما لم يصدق ذلك كثيرٌ من أهل العلم فضلًا عن غيرهم من عامة الناس، وما ذلك إلا لأن هذا عالمٌ غيبيّ وأموره محجوبة ومستورة عن الناس، ولا يعرف أحوال هذا العالم إلا من اتصل به عن طريق ممارسة الرقية والعلاج للمصابين بالعين والسحر والمس، فيرى فيه من العجائب والأحوال التي تعجز العقول عن حملها وتصورها وإدراكها والله المستعان وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد أورد ابن القيم-رحمه الله- في كلامه هنا شيئًا قد يكون عجيبًا مستغربًا عند بعض الناس وذلك حينما قال: " من محاربة أرواحٍ 
شيطانية ظهرت له إذ ذاك " فتأمل معي قوله: " ظهرت له " وهي
 كلمة واضحة في أنه-رحمه الله-كان يراهم (أعني: تلك الأرواح
 الشيطانية التي حاربته) وإلا فما معنى الظهور هنا غير ما ذكرته؟
 وليس هذا بأمرِ مُستنكر ولا مستغرب فبعض الناس قد يرى الجن
 والشياطين وقد قرر هذا ابن تيمية-رحمه الله-في كتبه وأجاب عن
 قوله تعالى: ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) الأعراف:27
وبيّن أن الآية لا تعني أنه يستحيل رؤية الشياطين والجن بل إن هذا ممكن ولكن في بعض الأحوال دون بعض (3) وليس المقصود هنا تقرير هذه المسألة ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-فيها، وإنما بيان أنه قد ظهرت له هذه الشياطين وأنه كان يراهم والله أعلم.

كذلك من الفوائد التي يمكن استنباطها من هذه القصة أنه-رحمه الله- حينما وقعت له هذه الواقعة أمر بعض أقاربه ومن حوله بقراءة آيات السكينة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا نسمي هذا الأمر منه للغير بقراءة هذه الآيات؟
إن هذه الآيات كانت بمثابة رٌقية شرعية حصل بها دفع هؤلاء الشياطين عنه، وحصل بها زوال ما به من  الضعف والمرض، وقام وما به قُلبة (أي: تعب أو نصب أو مرض) فهذا يعني أنه أمر من حوله بالرقية له بقراءة آيات السكينة، فالعالم الرباني قد يحصل له مثل هذه الحال من الضعف وأذى الشياطين له ولا يستطيع أن يقرأ بنفسه على نفسه فيطلب من غيره أن يقرأ عنده شيئًا من القرآن ليدفع عنه هذا الأذى وتذهب عنه هذه الأرواح الشيطانية فالضرورات لها أحكام، فأستطيع القول بأن ابن تيمية-رحمه الله-استرقى في هذه الواقعة (أي: طلب الرقية من الغير) مع أن المعروف عنه-رحمه الله- أنه كان يرى ألا يطلب المسلم الرقية من غيره بناءً على الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفًا من أمته الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأنهم... " هم الذين لا يَسْتَرْقون، ولا يَتَطَيَّرون ، ولا يَكْتَوون ، وعلى ربهم يَتَوكلون" (4) وأن قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يسترقون" أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم، وهذا هو أحد القولين في المسألة الذي مشى عليه ابن تيمية-رحمه الله-والقول الثاني: أن قوله" لا يسترقون " أي لا يطلبون الرقى غير الشرعية، أما طلب الرقية الشرعية فلا حرج فيه ولا ينافي هذا الحديث ولا يُفوّت هذا الفضل الوارد في الحديث، و هذا هو الراجح (5) لأدلة كثيرة ليس هذا مقام بسطها وشرحها، والمقصود هنا أن ابن تيمية-رحمه الله-استرقى وطلب الرقية في هذه الواقعة فإما أن يكون هذا قولًا آخر له في هذه المسألة، وإما أن يكون قد رأى أن هذه الحال حال ضرورة والضرورات لها أحكام تختلف عن الأحوال الاعتيادية والله أعلم.
ولذلك قد يُصاب بعض طلاب العلم بل والعلماء بشيء من العين أو المس أو السحر وقد يؤدي هذا إلى أن يضعفوا عن القيام ببعض المستحبات الشرعية بل والواجبات كذلك فعندها لابد من أن يسلكوا طريق الرقية ويطلبوا الرقية من غيرهم ممن يُوثق فيه من الرقاة حتى يزول عنهم هذا الأذى والبلاء ثم إذا ذهب عنهم رجعوا إلى ما كانوا عليه من ترك طلب الرقية-إن كانوا ممن يرون أن طلب الرقية وإن كانت شرعية يُفوّت عليهم الفضل الوارد في هذا الحديث- فإن عمران بن حصين -رضي الله عنه وأرضاه-كانت تسُلّم عليه الملائكة فلما اكتوى ذهب عنه ذلك، فلما ترك الاكتواء رجع إليه الأمر ثانيةً وأصبحت تُسلّم عليه الملائكة (6).

وفائدةٌ أخرى لهذه القصة: هي بيان عظمة هذه الآيات وتأثيرها في دفع أذى الشياطين-كما حصل ذلك لابن تيمية رحمه الله-،وكذلك بيان عظيم أثرها في حصول الطمأنينة والسكينة للقلب كما جرّب ذلك تلميذه ابن القيم-رحمه الله- فيما ذكره من الكلام في هذا الموضع.

فينبغي للمرء حفظ هذه الآيات وقراءتها على نفسه وعلى غيره ممن قد يحتاج إلى الرقية وأنا والحمد لله جربت قراءتها على المرضى والمصابين وخاصة إذا كان عندهم حالة من الخوف والذعر فإنه بعد قراءة هذه الآيات عليهم وتكرارها يحصل لهم الأمن والطمأنينة وذهاب الخوف وحالة الهلع والذعر التي قد يكون سببها تسلط الشياطين عليهم، والحمد لله الذي جعل في هذا القرآن شفاءً للمؤمنين فالقرآن كله شفاء وبعضه أفضل من بعض سواءً من حيث السور أو الآيات.

هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا القرآن العظيم وبما ورد فيه من الآيات والذكر الحكيم، وألا يجعلنا ممن هجره وهجر الاستشفاء به، وأن ينفعنا بما علّمنا ويعلّمنا ما ينفعنا.
هذا والله أعلم ونسبة العلم إليه أسلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.






(1) مدارج السالكين لابن القيم،ج٢، ص٥٠٢-٥٠٣.
(2) ذكر هذا عنه تلميذه ابن القيم-رحمه الله-. انظر: الرد الوافر لابن ناصر الدمشقي ص69، المكتب الإسلامي-بيروت، ط1 1393ه.
(3) راجع فتاوى ابن تيمية-رحمه الله- ج7، ص15.
(4) رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، انظر الحديث رقم (5705).
(5) رجحه شيخنا ابن عثيمين-رحمه الله-وذلك في تعليقه على كتاب الطب من صحيح البخاري، وهو الذي ترجح عندي بعد البحث والدراسة والنظر في الأدلة ولعل الله يسهل نشر هذه الدراسة ونتائجها قريبًا إن شاء الله ؛حتى يعم النفع بها للحاجة الماسة إلى هذه المسألة.
(6) رواه مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، انظر الحديث رقم (1226).

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © مجالي البوق - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -